تجرى الانتخابات النيابية في الأردن منذ العشرينيات، وقبل ذلك ولأكثر من خمسين عاما تجرى الانتخابات البلدية، وكانت تجرى انتخابات نيابية أيضا ضمن الدولة العثمانية منذ الربع الأخير في القرن التاسع عشر، وما زلنا في الأردن ونحن نستعد للانتخابات النيابية المتوقع إجراؤها بعد ستة أشهر على أقصى تقدير نتجادل في قضايا وممارسات انتخابية يفترض أن تكون قد حسمت منذ أوائل القرن العشرين، والآن وقد بدأت الحملات الانتخابية للمرشحين، فهل سنشهد تطورا في الخطاب الانتخابي، هل أفادت الانتخابات والحملات الانتخابية في تشكيل وعي سياسي وإعلامي وثقافي؟ لا شك أن الحملات الانتخابية لا تقل في أهميتها التنموية وتفعيل المشاركة السياسية والعامة عن الانتخابات نفسها، وهي بالفعل مناسبة لمراقبة الجدل الوطني الدائر، والقضايا العامة والمصالح التي تشغل المواطنين، ويمكن أن تكون أداة مهمة في تطوير الوعي بالاحتياجات والأولويات. ويغلب الظن أن الجدل بين المحاصصة والبرامج سيكون القضية الأكثر تداولا في اللقاءات الانتخابية، المحاصصة على كل المستويات وفي كل الدوائر والمحافظات، وسيكون للبرامج والأفكار حصة ضئيلة (أرجو أن أكون مخطئاً) في الحوار والجدل، وربما يكون المكان حضوره معقولا وجيدا، فتتشكل أفكار ومطالب متعلقة بالمدن والدوائر والمحافظات، وهكذا فبعد قرن ونصف من الممارسة الانتخابية ما زلنا نمارس ما يناقضها جوهريا ويعطل الهدف الحقيقي لها، فبدلا من أن يتجادل الناس في الأفكار والمصالح والتيارات السياسية والاجتماعية، ويصوتون على البرامج والأفكار، فإنهم ينقسمون إلى جهات وعشائر وأصول ومنابت بغض النظر عن مصالحهم وأفكارهم وتطلعاتهم وتقديرهم لأولوياتهم واحتياجاتهم وتوقعاتهم من الانتخابات النيابية. والرهان في تحويل الحملات الانتخابية إلى جدل وحوار بين البرامج والأفكار واحتياجات المدن والمحافظات وأولوياتها بدلا من جدل المحاصصة العشائرية والمناطقية والجهوية، الرهان في ذلك يقع على الناخبين أكثر من المرشحين، فالتقدميون وأصحاب الرؤى والأفكار من المرشحين لن يغامروا بما يمكن أن يؤدي إلى خسارة أصوات الناخبين، ولن يترددوا في قول (سلوك) وعد يمكن أن يمنحهم صوتا، وهكذا فالناخب الواعي المدرك للأولويات والمصالح والبرامج والمطالب والأفكار المطلوبة ينشئ بالتأكيد نواباً تقدميين يتجاوزون الروابط القرابية والجهوية. كيف لا نعمل ضد مصالحنا؟ كيف نعمل لأجل مصالحنا؟ هذا سؤال للناخب أكثر مما هو للمرشح، وإن كنا نسعى لأجل الارتقاء بالتعليم والصحة على سبيل المثال، واستعادة دور الدولة الرائد والمتقدم في هذين القطاعين فلا علاقة لذلك بأن يكون المرشح من القرية هذه أو تلك ومن العشيرة هذه أو تلك، وإذا كنا نتطلع لقوانين عادلة في الضرائب والضمان الاجتماعي والعمل والأجور، فهذا يتعلق ببرامج المرشح ومصالحه أيضا، فلا تكفي الوعود البرامجية للمرشح، ولكن يحكم الموقف منه سؤال «أين تقع مصالح المرشح؟». يجب أن نتأكد أن مصالح المرشح وليس فقط أفكاره تتفق مع مصالح الناخبين أو الدوائر الانتخابية، فلا أهمية أبداً لانتقاد الفساد إذا كان التطبيق الفعلي للمحاسبة والمساءلة يضر بالمنتقد، ولا نتوقع أبداً ممن يشارك في أعمال واستثمارات خاصة في التعليم والصحة أن يقدم إصلاحات في التعليم والصحة، إلا ما يخدم مصالحه واستثماراته، ولا نتوقع أبداً ممن يحصل على إعفاءات وتسهيلات ضريبية أن يساهم في تغيير قانون الضريبة، وإذا كان الناخب متضررا من سياسات ضريبية أو من فساد ما، فلن يفيده ابن عمه أو ابن منطقته في شيء إذا كان مشاركا في إيقاع الضرر. يا لها من فكرة بسيطة وبديهية جدا، ولكنها تبدو أُمنية بعيدة ونضالا مجتمعيا حتى بعد كل هذه الانتخابات المتكررة. ضعف السمع الفيزيائي المنتشر في بلادنا يبدو أنه يتحول إلى حالة نفسية ومنهجية في التفكير والتخطيط، والعزلة اللذيذة المبررة، ولكن في النهاية لا مفر من عملية استماع طويلة ودؤوبة، وصادقة. لدينا وزارة للتنمية السياسية ووزارة للشباب (صار اسمها المجلس الأعلى للشباب) وهيئات اجتماعية وتطوعية للديمقراطية والتنمية السياسية (ما شاء الله ولا قوة إلا بالله) ويفترض أن تساهم في تشكيل حوار وطني وأن تتيح للشباب والمواطنين الجدل والحوار والمناقشة مع المسؤولين والمرشحين للانتخابات النيابية، ولكنها برامج يغلب عليها الاحتفالية والصخب وضعف السمع، والطابع الإعلامي والتهريجي، وأشك في جدواها وإسهامها حتى بدرجة ضئيلة في تشكيل وعي وتنمية سياسية ترقى بالانتخابات النيابية والعامة. والواقع أن تطبيق هذه البرامج على هذا النحو إنما هو هدر كبير للأوقات والجهود والنفقات والموارد العامة، والأسوأ من ذلك كله أنها برامج لا تسير نحو هدفها المفترض والمتوقع، فإذا كان الهدف هو تفعيل مشاركة الشباب في العملية السياسية والانتخابات النيابية المقبلة فإن طريقة تنفيذ البرامج تظهر فرقا كبيرا وواضحا بين الهدف والبرنامج. نحتاج لمواجهة أنفسنا، على جميع المستويات، بعدد من الأسئلة البسيطة والبديهية ومحاكمة أعمالنا وبرامجنا إلى هذه الأسئلة، مثل ماذا نريد بالفعل؟ ما المرغوب أو المطلوب تحقيقه؟ وما الواقع القائم؟ وما الواجب والممكن تحقيقه؟ وهل تقربنا البرامج والأعمال مما نتطلع إليه؟ وبغير ذلك فإن الانتخابات النيابية والعامة التي تجرى في بلادنا ليست إلا «حراث جمال». العرب القطرية 2010-05-30