جاءت نتائج المجزرة الإسرائيلية ضدّ قافلة أسطول الحرية في صالح القضية الفلسطينية، ولصالح شعب غزة المحاصر بشكل لم يكن متوقعا. وبذلك تكون إسرائيل قد هزمت نفسها، حسب عبارة صحفي سويسري، بسبب وحشيتها، ودمويتها التي عرّتها أمام العالم. كما كانت شجاعة المتطوعين من مختلف الديانات والتوجهات السياسية والجنسيات، واستعداداهم للتضحية والشهادة قمة في الوفاء لقضية ستظل في قلوب الملايين حتى تتحرر الأرض، وتعاد الحقوق لأصحابها، وهي ملحمة سطّرها المتطوعون، ستبقى إنجازا نضاليا مشرفا للإنسانية، تتذكرها الأجيال القادمة بكلّ فخر. لقد نجحت المبادرات الشعبية وتحالف "الأحرار" العالمي في تعرية إسرائيل وفضحها وفضح معسكر الاعتدال العربي، الذي وجد نفسه فجأة يساير انتفاضة عالمية ضد تصرف الصهاينة وعربدتهم. وهكذا تكون للمبادرات الأهلية والمدنية (جمعيات وأحزاب ونشطاء) القدرة على تغيير العالم أكثر من الحكومات التي تملك الجيوش والإمكانيات والأموال ووسائل الإعلام. فهذه الحكومات العربية وقفت عاجزة تماما عن مساعدة غزة، بل حتى عن رفع صوتها أمام إسرائيل وأمريكا، بل إنهم لم يخجلوا من الموافقة على المفاوضات غير المباشرة وبغطاء عربي. ولكن قلة قليلة من المتطوعين الصادقين استطاعوا تغيير المعادلة وهز الرأي العام العالمي، الذي انتفض في كل العالم، لتعود القضية الفلسطينية لصدارة الأحداث، وليعود حصار غزة إلى عناوين الصحف والفضائيات من جديد، بعد أن عمل الصهاينة وبعض العرب على إقناعنا بأنه أمر واقع، وأنه حصار يتم بشرعية دولية. ما حدث يشبه المعجزة ويجعلنا أمام مواجهة الكثير من الأسئلة. فإسرائيل بغرورها وغطرستها قدمت لنا خدمة جليلة لم تكن لتتحقق إعلاميا وسياسيا لو سمحت بدخول السفن لغزة. وأحرار العالم أصبحت لهم خبرة وتجربة ومعنويات مرتفعة في مواجهة معسكر الشر العالمي بقيادة الكيان الصهيوني، وبدأت دائرة الحرية ومناصرة الحق الفلسطيني تتسع، وتستفيق قوى التحرر بعد سبات طويل، وخاصة بعد تنظيم قوافل شريان الحياة وغيرها من المبادرات التي قامت عليها "حركة غزة الحرة" وجمعيات أخرى كثيرة. ولأن الحالة العربية حالة مستعصية على الفهم، والمنطقة برمتها تشهد تحولات إستراتيجية مهمة فيجب علينا أن نتجاوز الحدث وما نتج عنه من إنجازات للاستفادة من دروسه في تسطير ملاحم أخرى في المستقبل لصالح شعوب المنطقة ولصالح الحرية والعدالة في العالم. وقبل ذلك علينا الإقرار بالأبعاد التالية، التي نتجت على هذا الحدث وأهمها: 1- الدور التركي أصبح طلائعيا في المنطقة، وأصبحت تجربة حزب العدالة والتنمية ذات بريق شعبي خاص، حتى أصبح رجب طيب أردوغان يوصف في الكثير من الأوساط الشعبية ب"الزعيم"، كما رفعت صورته في العديد من المسيرات، وحيّت العديد من الفعاليات الدور التركي، كما حملت الكثير من الوفود المشاركة في الاحتجاجات الزهور للسفارات التركية في الكثير من دول العالم. ويمكن القول إن أحد عوامل نجاح "أسطول الحرية" في "خضّ" العالم، الدعم التركي الرسمي والشعبي، وتسخير الموانئ التركية لتجهيز السفن، إضافة إلى مشاركة 400 تركي في القافلة، هم الأكبر من بين الوفود ( مقابل 100 عربي تقريبا) ، واستشهاد عدد منهم في عرض البحر المتوسط، حيث اختلط دمهم بدم غيرهم من أحرار العالم. وإذا كان الدور التركي الجديد مفاجئا للبعض، وملهما للبعض الآخر، فإنه يبدو نتيجة منطقية للديمقراطية، التي أفرزت فوز حزب العدالة والتنمية، الذي أصبح ممثلا لشعبه، ومعبرا عن إرادته. ولا يمكن فهم قوة أردوغان، وانخراط تركيا في الدفاع عن قضية المسلمين الأولى والقضية الإنسانية الأبرز، إلا بالانصهار بين الإرادة الشعبية التركية وحكومة أردوغان التي قال زعيمها في خطاب الثأر من إسرائيل "لن ندير ظهورنا لقضية فلسطين وشعب غزة"، وهو الخطاب الذي يعجز عن الإتيان بمثله أي من الزعماء العرب. وهنا يحق لنا أن نتساءل هل ستقود تركيا العالم العربي والإسلامي في المرحلة القادمة في قضايا التحرر والتقدم والديمقراطية؟ وهل سيكون للنموذج التركي (الديمقراطي) تأثير على التغيير في العالم العربي؟ 2- وما دمنا نتحدث عن الديمقراطية والتمثيل الشعبي الحقيقي، فإن سبب بلاء الأمة العربية وإصابتها بحالة من العطب القاتل، والفساد الذي ينخر دولها، هو غياب الديمقراطية وطغيان الاستبداد. فلا يمكن لحاكم عربي أن يعبّر عن إرادة حقيقية في قضية تحرر أو تنمية، وهو نتاج وضع فاسد، ومفروض فرضا على شعبه، ولا همّ له إلا المحافظة على منصبه مدى الحياة، والبحث عن الدعم الخارجي عوضا عن دعم شعبه في الداخل. ومن هذا المنطلق فإن الممارسة الديمقراطية هي الكفيلة بتحريرنا من كل شرورنا بدءا من الفساد، والممارسات القمعية التي تقمع الإنسان، وتفقده آدميته، وانتهاء بانخراطنا في قضايا التحرر، وعلى رأسها تحرير فلسطين والقدس. وإلى جانب المثال التركي، الذي كانت الممارسة الديمقراطية سببا في نجاحه، يمكن ذكر التجربة الكويتية التي نجح برلمانها المنتخب في إقناع الحكومة بالانسحاب من مبادرة السلام العربية. وقد وافقت الحكومة استجابة لممثلي الشعب، وهو ما يعتبر بصيصا من نور في ظل العتمة العربية (هذا قبل أن يقع الالتفاف على القرار الكويتي، ربما بسبب التجربة الديمقراطية الناقصة). ونقول هنا بأن غياب الحريات وحقوق الإنسان وحرية الإعلام والتعبير في العالم العربي كفيل بتكميم كل الأفواه والمبادرات التحررية القومية والإسلامية واليسارية على السواء، ويكفي مثالا على ذلك أن الفعاليات الحزبية والشعبية عاجزة حتى عن إخراج مسيرة واحدة في بعض الدول العربية لمساندة الشعب الفلسطيني، وحتى وإن وقعت فهي تحت قيادة وتأطير الحزب الحاكم. ولذلك فإن "المتخصصين" فقط في القضايا القومية عليهم الوعي بأن معركة الحريات أساسية في تحررنا، وأنه بدون التحرير الداخلي لا نستطيع أن نساهم في تحرير أرضنا من المغتصب الخارجي. 3- الفسيفساء العجيبة التي تكونت منها "قافلة الحرية" من ديانات مختلفة وجنسيات أكثر من 40 دولة، ومن إسلاميين وعلمانيين وعرب ونشطاء أوروبيين وأتراك، جعلت العمل الموحد على قضايا التحرر وحقوق الإنسان والعدالة أمر في غاية الأهمية، وربما هو الطريق الأنجح لتحقيق نتائج باهرة على الأرض. ورغم وجود بعض الأصوات الإعلامية القليلة، التي تشكك في الوحدة الممكنة لهذا النسيج من "أحرار العالم"، وأنه لا يمكن أن يخدم إلا أجندة بعض الأطراف، فإن الحقيقة التي أظهرتها الأحداث الأخيرة أن هذا "التحالف الدولي" لنشطاء من مختلف الأفكار السياسية قادر على الانتصار، بما يملك من روح ومبادرات على غطرسة الامبريالية وتحالف الشر والظلم العالمي. وقد أكد عدد من المفرج عنهم من متطوعي قافلة الحرية أنهم كانوا وهم في سجن بئر السبع يبحثون تسيير قافلة "شرايين الحياة 5" و "قافلة الحرية 2"، وهو أمر في غاية الأهمية، لأنه لا يجب أن تتوقف المبادرات، فتظهر إسرائيل وكأنها حققت رسالتها، كما لا يمكن السكوت عن دم شهداء البحر الأبيض المتوسط، وذلك بالعمل منذ الآن على الإعداد لقوافل أخرى أكثر حجما وتحديا. 4- تقزمت صورة السلطة الفلسطينية، وظهرت في حجم "الذرة" أمام صبر وإصرار حركة حماس على كسر الحصار، ومصابرة الشعب الفلسطيني في غزة على الجوع والحرمان، وعدم التنازل عن كرامته بأي شكل، لا أمام المؤامرة الإسرائيلية للتجويع والحصار، ولا أمام المكر والحصار المصري والعربي، الذي حاول في مفاوضات المصالحة الانحياز للسلطة على حساب المقاومة، وشيد الجدار الفولاذي، وهدم الأنفاق. 5- ومع كتابة هذه الافتتاحية كان محمود عباس يؤكد رفضه تجميد المفاوضات غير المباشرة في حين سعت مليشياته لمنع مسيرات مساندة لقافلة الحرية، كما يفعل زملاؤه العرب. وهو بهذا يمارس سياسة الهروب للأمام، لأنه لا يملك غيرها، وينسى أنه بهذه الممارسات إنما يوشك أن يقضي نهائيا عن تاريخ حركة فتح في المقاومة والتحرر، ويفتح المجال للقلوب للتعلق أكثر بتجربة حماس، حتى أن البعض يجزم بأنه لو نظمت الآن انتخابات في الضفة والقطاع فإن حركة فتح ستحصل على أدنى الأصوات، في حين سترتفع أسهم حماس وحركات المقاومة التي لها شعبية متزايدة داخل الأراضي الفلسطينيةالمحتلة وخارجها. كما أصبحت صورة بعض الأنظمة العربية الفاسدة، والمتواطئة كريهة ومقززة لدى شعوبها، ولا تزيدها هذه الأحداث المصيرية في حياة الأمة إلا انكشافا، وتدنيا، وتعريا، وهو ما يجعلها على الأرجح تمعن في القمع والتآمر على شعوبها بأكثر وحشية، مما سيعجل برحيلها غير مأسوف عليها. 6- المشاركة المكثفة لبعض الرموز الإسلامية التركية والعربية في هذه القافلة، ومنهم عضو الكتلة البرلمانية لجماعة الإخوان المسلمين الدكتور حازم فاروق منصور، وزميله محمد البلتاجي والطبطبائي من الكويت ومحمد غلام ولد الحاج الشيخ زعيم حزب "تواصل" الموريتاني ونواب وأعضاء حركة "حمس" الجزائرية ( أكثر من 10) وأعضاء حركة العدل والإحسان المغربية والمرشد السابق لجماعة الإخوان في الأردن وغيرهم من نشطاء إسلاميين، عدد منهم أتى من دول أوروبية، يجعل التيار الإسلامي أحد أهم مكونات حركة التحرر والعدالة العالمية، بما يملكه من شعبية وتجارب وامتداد، وهو مؤهل ليكون أكثر فاعلية للدفاع عن قضايا التحرر، هذا طبعا إذا نجح في التخلص من الأجنحة المتشددة، ومن بعض السياسات الخاطئة، التي تورطت فيها الكثير من الحركات الإسلامية. وهذا في الحقيقة لا يجب أن يقلق التيارات العلمانية التحررية أو يزيد في عدائها للتيار الإسلامي، بل على العكس من ذلك، يجعلها أكثر انخراطا في هذه الحركة التحررية العالمية، وهي التي لم تستطع وحدها تحمل هذا العبء، بسبب انحسارها الشعبي. كما يطرح على العلمانيين مهمة أيضا في غاية الخطورة، وهي تقوية التنسيق مع التيارات الإسلامية التحررية لسببين على الأقل: الأول مواجهة الظلم والغطرسة العالمية والاحتلال والاستيطان في أوسع تحالف عالمي، والثانية إضعاف التيارات المتشددة والظلامية، التي يزيد اتساعها بسبب الاستبداد والقهر والظلم. aqlamonline التحرير موقع أقلام أولين محجوب في تونس