كدارس لعلاقة المغاربيات والمغاربيين باللغة العربية/لغتهم الوطنية لاتكاد تتوقف عندي الأوصاف التي تشخص طبيعة تلك العلاقة غيرالطبيعية. فتارة وصفت الثتائية اللغوية المغاربية بأنها ثنائية أمارة بالسوء بالنسبة للغة العربية وتارة أخرى وصفتهم بأنهم يفتقدون كثيرا لما أسميه التعريب النفسي والمتمثل في ضعف وجود علاقة حميمية بينهم وبين اللغة العربية بحيث لانكاد نرى أغلبيتهم، بعد نصف قرن من الإستقلال، يدافعون ويغارون عليها أويستعملونها بافتخار واعتزازوعفوية في الشؤون الخاصة والعامة في الحياة الإجتماعية بالمجتمعات المغاربية الحديثة. وتارة ثالثة يشد انتباهي مدى انتشارفقدان معظمهم للراحة الكاملة في جلد تهم اللغوية /اللغة العربية. فالدراسات الغربية لظاهرة الثنائية اللغوية تشيربوضوح إلى أن هذه الأخيرة طالما تحدث مشاكل سلبية لدى الأطفال وبالتالي فهي تطرح عليهم الكثيرمن التحديات كما يوحي بذلك عنوان هذا الكتاب الفرنسي Le défi des enfants bilingues وفي مقابل ذلك فإن الباحث في المسألة اللغوية اليوم بالمجتمعات المغاربية يجد جهلا واسعا وإنكارا متفشيا بين المواطنات والمواطنين في هذه المجتمعات للمظاهرالسلبية للثنائية اللغوية كما تعيشها أغلبية هؤلاء ليس بين الأطفال فقط وإنما بالخصوص بين الكهول منهم، كما سنرى. من معالم الإستلاب اللغوي كل الأمثلة التالية تدل أن المجتمعات المغاربية الفرنكوفونية تعيش ما نسميه في عنوان المقال الإستقواء باللغة الأجنبية. ويعني هذا أن معظم السكان يشكون اليوم من استلاب لغوي كبيرأوصغير بسبب الإزدواجية اللغوية الأمارة وضعف التعريب النفسي وغيرهما من العوامل مما يجعلهم لايشعرون بالراحة الكاملة في حالات كثيرة باستعمال لغتهم الوطنية/العربية شفويا وكتابيا. فكأن الإستقواء باللغة الفرنسية حكم عليهم بأن لاتكون علاقتهم علاقة طبيعية داخل جلدتهم اللغوية الوطنية/اللغة العربية كامل حياتهم. وهومأزق خطيرفي الصميم لايكاد يحس به هؤلاء ناهيك عن الوعي بضرورة التغييرلكسب الرهان بالكامل ضد الإستلاب اللغوي واسترجاع الراحة المطلقة داخل جلدتهم الوطنية اللغوية التي تمثلها اللغتان العربية والأمازيغية. لنترك بعض السلوكات اللغوية تفصح عن معالم الإستقواء باللغة الفرنسية لديهم خاصة لدى المثقفين والمتعلمين مزدوجي اللغة والثقافة : 1 إن الاستعمال الواسع اليوم للهاتف الجوال بالمجتمعات المغاربية الفرنكفونية يجسم الإستلاب اللغوي. فأغلبية مواطني هذه المجتمعات يستعملون الحروف اللاتينة في كتابة إرسالياتهم.. فالفرد المغاربي شبه مجبور أن يبعث حتى تهانيه إلى أهله وأصدقائه وزملائه بحلول شهر رمضان وعيد الفطر وعيد الأضحى بحروف أجنبية. وللنجاح في استعمال هاتفه فهو مطالب أن يتعلم باللغة الأجنبية (الفرنسية أو الانجليزية) معاني كل الكلمات والعبارات الموجودة على شاشة الجوال، أمثال silencieux, fort , forward, modifier, supprimer, appels en absence message reçu وعدد كبير آخر من الكلمات والعبارات الأجنبية. أي أن المواطنين المغاربيين شبه محكوم عليهم في ظروف الغياب الكبير للهاتف الجوال الحامل للحروف العربية وبسبب ضعف تحمسهم لاستعمال اللغة العربية أن يحذقوا التعامل مع عالم الهاتف الجوال عبر اللغات الأجنبية ابتداء بتعلم كلمة بورطابل portable بالفرنسية عوضا عن كلمة الجوال أو المحمول. ثم هم يحفظون شفويا الكلمات والعبارات الأجنبية اللازمة لتشغيل هواتفهم الجوالة، فيجدون أنفسهم عاجزين على استعمال تلك الكلمات والعبارات باللغة العربية: لغتهم الوطنية. وهذا سلوك لغوي مغاربي شائع يعمل بالتأكيد على تخلف اللغة العربية بحيث تصبح اللغة الثانية أو الثالثة لدى أهلها في الاستعمال الشفوي أوالكتابي أوهما معا وذلك يعود إلى ما نسميه في هذا المقال باستقواء معظم المغاربيات والمغاربيين باللغة الفرنسية. 2 إ ن ا نتشا را ستعما ل ا لحا سوب في المجتمعات المغاربية لا يصل إلى مدى انتشا ر الهاتف ا لجوال لأ سبا ب عديدة تأتي في طليعتها التكلفة المالية. تفيد الملاحظة بأن معظم الحواسيب الشخصية هي حواسيب بحروف أجنبية فقط أوبهاحروف عربية لكن لايكاد يستعملها أصحابها. أي أن العقلية الجماعية للمتعلمين والمثقفين المغاربيين لا تزال متحيزة كثيرا إلى اللغة الفرنسية/الأجنبية. وذلك السلوك هومعلم للإستلاب اللغوي. وهوعكس مايدعو إليه تقرير التنمية الانسانية ا لعربية الذي يبرز أهمية اللغةا لعربية في الوطن العربي بصفتها مقوما أساسيا لبناء مجتمعات المعرفة في البلاد العربية. فضعف استعمال اللغة العربية في الجوال والحاسوب بالمجتمعات المغاربية يمثل عملية تعطيل لحركة التعريب المتذبذبة أصلا ومن ثم يعزز حالة استمرارالنظرة الدونية الواسعة الإنتشار بين معظم الفئات الإجتما عية المغاربية إزاء اللغة العربية. ويتعارض هذا الوضع اللغوي المغاربي المتخلف مع مانجده في كثير من المجتمعات المشرقية العربية حيث تم التعريب بالكامل لحروف ومفاتيح إشارات الإستعمال للهواتف المحمولة والحواسيب بحيث لا يكاد المرء يحتاج إلى معرفة حروف اللغات اللاتينية للتعامل بكل قدرة ومهارة في تشغيل وتسيير الهاتف الجوال والحا سوب. وهذا ماشاهدته ميدانيا في 2005 بالمجتمع السعودي. 3 كعالم اجتماع لغوي، طالما يشد انتباهي الإستقواء باللغة الفرنسية خاصة لدى النخب المتعلمة والمثقفة المغاربية بحيث تتخلى بسهولة عن جلدتها اللغوية الوطنية دون شعوربالإعتذارأمام المواطنين واللوم على النفس عندما تستعمل الفرنسية/اللغة الأجنبية بدل العربية. يحدث هذا كثيرا بين تلك النخب في السروالعلانية وفي مناسبات مختلفة في تونسوالجزائروالمغرب. أكتفي هنا بذكر ثلاثة أمثلة من المغرب والجزائروتونس على التوالي: أ نظم في 2005 مركزدراسات المغرب العربي بتونس Cemat ندوة حول مدن المغرب العربي عبرالعصور. دعي المشاركون المغاربيون ليقدموا بحوثهم بأي من اللغات الثلاث : العربية، الفرنسية والإنكليزية. فكانت النتيجة أن مشاركة واحدة مغربية قدمت ورقة بحثها باللغة العربية. فلاحظت أن معظم المغاربيات والمغاربيين المشاركين قد استاءوا من استعمالها للغة العربية. ب أما في الجزائر في 2009 فقد واجهت أيضا باحثة جزائرية معارضة بسبب تقديم مداخلتها باللغة العربية في ندوة فكرية علمية متوسطية عقدت بوهران. وأمام إصرارالباحثة على استعمال اللغة العربية في ندوة تقام بالجزائر سمح لها رئيس الندوة بذلك. ت وأخيرا عقدت في تونس في شهرماي 2010 ندوة موضوعها الحواربين الأديان. كانت الندوة مشتركة مع اليونسكو. ألقى الأستاذ التونسي المشرف على تنظيم الندوة كلمة الإفتتاح باللغة العربية وأوضح أن هناك ترجمة لمداخلات المتحدثين وأسئلة الحاضرين والإجابات عليها. أشرف هذا الأستاذ على الجلسة الأولى للندوة، فأدارها باللغة الفرنسية فقط. أي أنه لم يحترم لااللغة العربية/ الوطنية لتونس التي يمثلها ولاوجود الترجمة المعلن عنها للأجانب الذين لايتجاوزعددهم أصابع اليد الواحدة. ومن جهة أخرى، تحدث في هذه الجلسة ثلاثة تونسيين. فأحدهم أستاذ متخصص في معجمية اللغة العربية والمتحدث الثاني يعمل في المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم/الألكسو. أما المتحدث التونسي الثالث فهومهتم بموضوع حوارالحضارات. ألقى كلهم محاضراتهم باللغة الفرنسية. بعد ذلك، طرح الحاضرون التونسيون والتونسيات أسئلتهم بالفرنسية فقط حتى أن أحد السائلين توجه إلى المحاضرين التونسيين فقدم نفسه بنطق فرنسي لإسمه العربي محمد. أقتصر هنا على إبرازملاحظتين: أ يغلب على معظم المغاربيين المتعلمين والمثقفين فقدان الشعوربالراحة الكاملة في جلدتهم اللغوية الوطنية. وهذا أخطرمن فقدانهم للراحة الكاملة مع أعلامهم الوطنية. ب يتصف هؤلاء بثنائية لغوية يفضل فيها الإستقواء باللسان الأجنبي على حساب اللسان الوطني مما يؤدي إلى ظهورشخصية قاعدية مزدوجة مرشحة للتعرض إلى المشاكل النفسية وإلى صراعات الهوية. ومن منظورعلمي النفس والإجتماع، فإن تلك الشخصية هي في أغلب الأحوال شخصية مشوشة ومرتبكة تشكو من مركبات النقص، وبالتالي لا تصلح أن تكون عربون تقدم حقيقي متماسك وأصيل لمسيرة المجتمعات المغاربية. محمود الذوادي عالم إجتماع تونسي الصباح التونسية