بين حين وآخر، تشهد الساحة الفلسطينية والعربية موجة جديدة من جهود المصالحة الفلسطينية. آخر هذه الجهود هي تلك التي رافقت وتلت زيارة الأمين العام لجماعة الدول العربية، السيد عمرو موسى، لقطاع غزة. ذهب الأمين العام إلى غزة وهو يحمل معه أفكاراً ما حول تحقيق المصالحة المنشودة بين غزة حماس ورام الله السلطة الفلسطينية. والواضح أن رئيس حكومة حماس في غزة، السيد إسماعيل هنية، لم يخيّب أمل الأمين العام، وقدم له اقتراحات إضافية للالتفاف على الخلافات التي منعت إنجاز المصالحة. خلال الأيام القليلة التالية لزيارة موسى القصيرة، اندلعت حمّى المصالحة عبر المدن والعواصم. وحتى بعد أن أعلن مسؤول مصري أن التوقيع على الورقة المصرية، كما هي، شرط أوليّ لبدء العملية، بغض النظر عن أي اقتراحات أخرى، لم يتراجع حراك موجة المصالحة الجديدة. مهما كان الأمر، فالواضح أن جهود المصالحة الفلسطينية تحركها دوافع خاطئة، بنيت على افتراضات خاطئة، وتغفل إلى حد كبير الحقائق الصلبة الآخذة في التبلور في الساحة الوطنية الفلسطينية. أن تنقسم حركة وطنية على نفسها هو بالتأكيد شأن فادح التكاليف؛ إذ ليس ثمة حركة تحرر وطني حققت الانتصار وهي منقسمة ومتصارعة؛ لذا، فإن كل جهد لتحقيق مصالحة وطنية فلسطينية هو أمر إيجابي، بلا شك. ولكن ما يحرك أغلب جهود المصالحة ليس الاهتمام الخاص بوضع الحركة الوطنية الفلسطينية وصلابة قوامها. الحقيقة، أن عدداً من الدول العربية لعب أدواراً متفاوتة من قبل، ومنذ الثلاثينيات من القرن الماضي، للمحافظة على قدر من الانقسام داخل صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية، وجذب ولاء جهة أو أكثر من القوى الفلسطينية، أو حتى صناعة قوة سياسية من لا شيء، لتأمين موضع قدم في الساحة الفلسطينية. صحة وعافية الحركة الوطنية الفلسطينية ليست على الأرجح ما يحرك جهود المصالحة. المحرك الأوليّ والرئيس لهذه الجهود هو الافتراض أن توحيد الفلسطينيين سيسهم إسهاما كبيرا في دفع عملية السلام إلى الأمام. منذ وقع الانقسام بين غزةورام الله، وُلدت مقولة إسرائيلية مفادها أنه وإن كان الرئيس عباس رجل سلام بالفعل، فالرجل ضعيف، لا يمثل الفلسطينيين جميعاً، وغير مؤهل قيادياً لاتخاذ قرارات التفاوض الصعبة. وسرعان ما تبنى الأميركيون والأوروبيون المقولة الإسرائيلية، وأخذوا في ترديدها في اللقاءات مع الزعماء والمسؤولين العرب. ما يعتقده أغلب المصالحين العرب والفلسطينيين، أو ما يستبطنونه، أن مصالحة بين غزةورام الله ستؤكد قيادة عباس للشأن الفلسطيني، وتضعه في موقع تفاوضي أقوى؛ وحتى إن لم تسهم مساهمة ملموسة في دفع عملية السلام، فستعمل على تجريد الإسرائيليين من مبررات ترددهم، وتعريهم أمام الأوروبيين والأميركيين. هذه، بالطبع، فرضية ساذجة، إن دلت على شيء فتدل على أن عجز القطاع الأوسع من الساحتين السياسيتين العربية والفلسطينية عن التحرر من وهم التسوية التفاوضية القائمة على حل الدولتين. الاتفاق الأخير في مسار أوسلو، الذي بنيت عليه الآمال بالوصول إلى دولة فلسطينية، كان اتفاق واي ريفر في 1996. كل ما شهده مسار التسوية بعد ذلك كان انقلاباً، بهذه الدرجة أو تلك، على ما حصلت عليه سلطة الحكم الذاتي بعد توقيع اتفاق أوسلو. والحقيقة أن حكماً ذاتياً محدوداً لمناطق الكثافة السكانية في الضفة الغربية هو كل ما يمكن للإسرائيليين أن يعطوه للسلطة الفلسطينية. وصول مسار أوسلو إلى نهايته لم يحدث في عهد نتنياهو أو الليكود، بل في عهد باراك وحزب العمل. وعباس، الذي طالما أكد الإسرائيليون ثقتهم في نواياه السلمية عندما كان عرفات رئيساً للسلطة، لم يتولَّ الرئاسة بعد الانقسام بين غزةورام الله، بل منذ وفاة عرفات المريبة. ولم يزدد وضع سلطة الحكم الذاتي في عهد عباس إلا سوءاً. مسار أوسلو انتهى، وحل الدولتين لم يعد سوى سراب، وتصور أن المصالحة الفلسطينية ستأتي بدولة فلسطينية، ليس إلا تمريناً جديداً في السراب. بيد أن هناك ما هو أفدح في الافتراضات المؤسسة لجهود المصالحة. أثقل هذه الافتراضات فداحة تلك التي تغفل حجم الافتراق في الساحة السياسية الفلسطينية. دور فتح في إعادة بناء الهوية وحركة التحرر الوطني الفلسطينية، هو أمر لا يمكن لمؤرخ أن يتجاهله. كانت النكبة قد أطاحت بالجماعة الوطنية الفلسطينية وفرضت عليها شتاتاً جغرافياً واسع النطاق؛ فاقم منه فقدان المقدرات ومصادر الرزق، وانقسام سياسي وأيديولوجي متزايد. بارتكازها إلى الهوية الوطنية، وتبنيها الكفاح المسلح، قفزت "فتح" فوق الشتات الجغرافي والانقسام الأيديولوجي. وليس ثمة شك أن مؤهلاتها تلك جعلتها في موضع أفضل من منافسيها عندما وسعت هزيمة 1967 من الهامش المتاح أمام الحراك الوطني الفلسطيني. وسرعان ما استطاعت فتح أن تقود الحركة الوطنية ومنظمة التحرير، وتعيد بناء وحدة الشعب وتحدد أهدافه. بيد أن فتح ما بعد اتفاق أوسلو ليست فتح الستينيات والسبعينيات. ليس هذا بالتأكيد مجال قراءة التراجعات التراكمية التي أثقلت كاهل فتح وأفقدتها موقع القيادة، من برنامج النقاط العشر إلى توقيع اتفاق أوسلو. ولكن هناك ما هو أسوأ؛ فباعتبارها حزب سلطة الحكم الذاتي، لم تستطع فتح أن تتحرر من الخراب الذي أحدثته السلطة في المجتمع الفلسطيني، ومن التراجعات التي حملها برنامج السلطة للتسوية. وعندما أخذت الانتفاضة الثانية في إحداث آثارها العميقة في جسم السلطة والقيادة الفلسطينية، وفي سلّم أولويات سلطة الحكم الذاتي، لم تستطع فتح حتى الحفاظ على وضعها حزباً للسلطة. في النهاية، فقدت فتح موقعها في قيادة الحركة الوطنية والإجماع الوطني، وفقدت تأثيرها على جسم سلطة الحكم الذاتي وتوجهاتها. فتح اليوم هي أشبه بشبح صغير للحركة التي قادت حركة التحرر الوطني وأعادت بناء الهوية الوطنية، وشاهد زور على سلطة الحكم الذاتي، السلطة التي يفترض أن تكون وُلدت من رحمها وتخضع لقيادتها. في طورها الأخير، لم تعد سلطة الحكم الذاتي تعبيراً عن الحركة الوطنية الفلسطينية، لا في صيغتها الفتحاوية الوسيطة، صيغة الدولة الفلسطينية المستقلة، ولا في صيغتها الحمساوية. مشكلة السلطة في رام الله ليست بالضرورة مع حماس، بل أصلاً مع فكرة نضال الشعب، أي شعب، من أجل التحرر والاستقلال. الخطيئة الأولى، بالطبع، كانت في تحول مشروع التحرر الوطني، قبل إنجاز ولو جزءاً ملموساً من أهدافه، إلى سلطة وحكم وطبقة حاكمة. ولكن التدهور استمر باطّراد بعد ذلك، عندما أصبحت السلطة أسيرة المساعدات الغربية، من ناحية، وتدفق الموارد من القناة الإسرائيلية، من ناحية أخرى. وشيئاً فشيئاً، تعاظم ارتباط السلطة الأمني بالأمن الإسرائيلي، مصلحةً وقناعةً وشرطاً للوجود. خطط وسلطة الجنرال دايتون لم تعد سراً بالتأكيد؛ ولكن المشكلة ليست في دايتون، المشكلة أن بقاء السلطة وطبقتها الحاكمة لم يعد يستند إلى شرعية تعبيرها عن الحركة الوطنية الفلسطينية وأهدافها، بل إلى الرضا والاطمئنان الإسرائيليين، وفي شكل منفصل عن التقدم أو التعثر في مسار التسوية والمفاوضات. بكلمة أخرى، لم يعد هناك ما يجمع بين رام اللهوغزة ليؤسس لمصالحة وطنية فلسطينية. وربما حتى استخدام "وطنية" هنا ليس في موضعه الصحيح. العرب القطرية 2010-06-24