الحراك الإسكندراني النظام لا يُحسن المناورة البرادعي.. الرئيس يزحف كان الاتشاح الإسكندراني الاحتجاجي بالسواد في كورنيش العاصمة الساحلية مَهيباً ومؤثّراً لقوة الصدمة للتاريخ الوطني المصري ولحجم ما شكلتّه وحشية اغتيال الشاب خالد سعيد العلنية والاستعراضية على يد المخبرين الأمنيين, وكرّس ثقل الاستفزاز للشخصية المصرية حديث الصحف الحكومية وتضليلها للرأي العام, وإساءتها للضحية التي لا يؤثّر عليها عُرفاً عند من يعترف بأبجدية حقوق الإنسان كون الضحية متهما بأي فرية أو عمل جنائي. فكل ذلك السحق وضرب جمجمة الضحية وكأنّها مطفأة سجائر على سلم الدرج ثم إلقاء جثته بعد ذلك أمام المقهى الذي ذُبح فيه، وكل ذلك المشهد المروّع والمستفز لكرامة الإنسان المصري شكّل ما يشبه الصاعق المُلهب لسلسلة من غليان الشارع المصري قفزت به جريمة الإسكندرية إلى مدار جديد متوقّع من تحالف حركة الحرية المصرية التي لم تكن في يوم من الأيام ومنذ ثورة الشارع في أواخر عهد الرئيس السادات كما هي الآن. الحراك الإسكندراني ولعل الحراك الإسكندراني كان له رصيد في هذه الحادثة وردة فعله المباشرة للتصعيد على المؤسسة الأمنية واضطرار الحكومة المصرية لمحاولة الالتفاف على القضية والتحقيق لسحب مشاعر الغضب, إلا أنّ الحقيقة الشاملة تُشير إلى عبور حركات الاحتجاج المصري في 6 أبريل وحركة كفاية وحشد من جماعات التدوين المصري إلى منطقة جديدة من الثقة في قرار التغيير الشعبي وبالذات كونها لغة ووسيلة وشخصيات مصرية 100%، ولكنها تنطلق بدفق شبابي هائل أضحى يزدحم مع طبقات الشعب المصري ويوصِل رسالته رغم استمرار تلك المظلة الإعلامية الموالية الهائلة التي تُنفق عليها مؤسسة الرئاسة ونظام الحكم مبالغ أسطورية لحجب الشارع المصري عن التفاعل مع حملات الاحتجاج الوطني. ونجاح التحالف الاحتجاجي تمثّل في إسقاط الدائرة المفرغة التي يلجأ إليها نظام الرئيس مبارك في الإشغال الشعبي أو تدوير قضايا الفساد بحيث يُربك المواطن من المشهد المُجسّد أمامه من الإعلام، وهو أنّ بعض النُواح على قضايا الفساد إنما يُصدره المتهم الأصيل للاحتواء والتضليل وهي برمجة عانى منها الشعب وتَمّ التلاعب بمصير العديد من القضايا عبر هذا التدوير بين النُواح والتحقيق المُسيّس من الحزب الحاكم وهكذا. غير أنّ اختراق تحالف الاحتجاج للشارع غيّر من هذه المعادلة وجعل هناك مساحة تحرك صاعدة لمصلحة الحركة الوطنية الحقيقية وخسارة الحزب الحاكم ومؤسسة الرئاسة, وأمام ذلك برزت قضية سقوط المعارضة الشكلية التي كان يرفدها الحزب الحاكم لتظهر في مشهد متهالك وشريك مُنظّم في حملات الفساد في توقيت دقيق مما يؤكّد مرةً أخرى على أنّ صعود العهد الجديد للحركة الوطنية لا يمّر مطلقا عبر هذه البوابات المخترقة من الفساد أو العاجزة ذاتيا لتخلفها الفكري وعجزها الإداري. النظام لا يُحسن المناورة ومما يعطي دلالة مهمة في مرحلية هذه الحركة أن كُل وسائط النظام في سياسته الخارجية والداخلية تُشير إلى فشله أو عجزه عن أي إعادة لصياغة برنامج احتواء للقضايا المُلحّة والضاغطة عليه, فهو في ملف غزة عاد من جديد إلى تبني حالة الاحتواء لأي حراك يُخفف حالة الحصار والضغط، وهذا صرح به وزير الخارجية الفرنسي كوشنر حين ذكّر بأنّ مصر –النظام الرسمي– اعترضت على أي تخفيف للحصار على غزة مع سلسلة من التصريحات الأُخرى والممارسات التي واجهتها بعض الوفود الخليجية عند معبر رفح تؤكّد على ذات المعنى. وما يعنينا هنا هو أنّ أبجديات السياسة تدفع أي إدارة حكومية إلى إعطاء تنازلات ملموسة لتخفيف الضغط الشعبي والعربي عنها فيما تنتهج سياسة الرئيس مبارك العكس من ذلك، وقد يقول قائل إن الرهان لدى قصر عابدين هو قوة دعم الحكومة اليمينية في تل أبيب له وبالتالي سيتحول الدعم الأميركي الأهم على الإطلاق لدى القاهرة من واشنطن لتثبيت انتقالية الحكم في القاهرة ورعاية ما تبقى من المرحلة المنتهية. لكن المراقب يُدرك أنّ هذا الإلغاء الكُلي لملف العمق العربي وإعادة الضغط على حماس دون تصحيح لاتفاقية المصالحة الظالمة في بنودها الرئيسية للشعب الفلسطيني, وإهمال موقف الرأي العام الوطني سيُعقّد حالة العلاقة بين حلفاء الرئيس وقدرتهم على تثبيت الدعم في تفاصيل دقيقة وخطيرة على الساحة، وهو ما ظهر في الملاومة الضمنية لوزير المواصلات الإسرائيلي للقاهرة الذي أشار إلى أنّ النظام المصري كان مَلكيا أكثر من الملك في تطبيق الحصار مما كلّف إسرائيل في النهاية حصيلة رد الفعل العالمي. هنا يبرز لنا فشل الرئيس مبارك وطاقمه في دورية التصعيد على غزّة وعجزه عن أي مرونة تكتيكية, وهو ما يؤشّر بقوة إلى أنّ السياسة تُدار بموقف معاند من حزب الرئيس لا يُعطي أي مساحة للمراجعة والنقد الذاتي للحالة السياسية التي كُشفت حتّى في أمن مصر القومي الخاص في حوض النيل، وهو ما يؤكّد هذا العجز الذي يعتقد صاحبه أنه لا يزال قويا ومتماسكا دون أي اعتراف لما يجري من حوله. أمّا في سياسة الداخل فيكفي تدليلاً على عجز النظام عن القيام بأي حراك احتوائي وضع الحريات السياسية, فقد برز ذلك في قصة التزوير الشامل لانتخابات الشورى إضافة إلى حلقات القمع المتكررة للعناصر المعارضة الشبابية مع دورات الاعتقال المكثّف لعناصر الإخوان المسلمين, حتّى ولو مرحلياً لم يُغيّر النظام أي صيغة للتعامل مع الإخوان وهو في الحقيقة كان يدفعهم للخروج من دائرة التردد للتحالف مع الجمعية الوطنية للتغيير ورمزها محمد البرادعي, ولولا أن الإخوان لا يزالون يعانون من إشكالية عميقة في إدارة الملف السياسي لتعقّد الأمر أكثر على نظام الرئيس مبارك. ومشكلة الإخوان الاضطراب والارتباك والوقوف في منتصف الطريق فلا هم اعتزلوا العملية السياسية كما نصحهم د. محمد سليم العوا وكثّفوا بناء الفكر وصناعة المجتمع المدني الحُر في الفكر الإسلامي الإصلاحي وبالتالي مارسوا السياسة في قاعدتها الفكرية، ولا هُم الذين حركّوا أدوات الفعل السياسي بما يحقق الحماية والضغط الحقوقي لهم ولعناصرهم وقيادتهم المكدّسة في السجون. وليس ذلك تقليلاً من التضحية والفداء لشعب مصر الذي يقدمه عناصر الإخوان لكن الإشكالية في أنهم يُقدّمون تلك الوجبات رخيصة للقمع الأمني, وقد ساهم في هذا الإرباك تصفية التيار الإصلاحي مؤخراً في الإخوان, ولذا انعكس ذلك في تأخّر التحالف الرمزي مع البرادعي مع أنّ التحالف القيمي الذي طرحه البرادعي هو أقّل وسائل الحراك السياسي, في كل الأحوال فإن حجم المشاركة الشبابية الإخوانية المستقلة وخاصةً في التدوين عن قرار الجماعة يبدو أنه في تزايد، وهو ما يُعزز التحالف الوطني المصري الجديد. البرادعي.. الرئيس يزحف إن كِلا المفهومين أصلي في القضية، أي زحف الرئيس مبارك الاضطراري لسلف مختار أو غيره من الكرسي أو زحف حركة التغيير وقدوم محمد البرادعي للكرسي, وليس بالضرورة أنّ ذلك يعني انقلاب الوضع فورياً، لكنّ المقصود في رصد حركة القبول الدولي للتغيير في مصر، وهو أيضاً اضطراري للتوجه العالمي لكون كل الشكوك تحوم بالفعل حول قدرة النظام مع الحالة التي أنهكت مؤسساته وبنائه الداخلي على القدرة على الصمود, مع وجود رفض داخلي كبير للتدخل وهو يرى أنّ أي خيار مما يطرح الآن لن يكون أسوأ من الحالي إذا ما نُقل الحكم سلميا أو باحتجاج مدني. وعليه فإن واشنطن تدرك تماما خطورة أن تتدخل مخابرتها المركزية أو تل أبيب مباشرة في تثبيت الوضع الراهن ضد أي حالة تغيير قومية، وأن الرهان على الفوضى سيكون صعباً فيما يكاد المشهد الدولي يتفق على أن البرادعي يُمثّل العلمانية النظيفة حتى تاريخه, فيما يُمثل نظام الرئيس مبارك العلمانية الفاسدة والقمعية في توقيت حسّاس يُرجّح إذعان الحالة الدولية لطرح البرادعي. وما بين جولة ولقاءات محمد البرادعي في مشهد نادر مع الجاليات المصرية بالغرب بعد أن تجوّل في الداخل وبين شوارع الإسكندرية الملتهبة يأتينا الجواب في تزامن الاستفزاز مع تطورات المشهد الذي ربّما يهيئ الحراك الأخير لإشعال عاصفة التغيير. المصدر:الجزيرة الأحد 15/7/1431 ه - الموافق 27/6/2010 م