بين ثقافة التعايش و ثقافة القطيعة بقلم: عامر عياد من المتعذر أن نتفهم الصعوبات الكبرى التي يلاقيها الجيل الذي تقدمنا و الذي يقود اليوم اغلب الحركات الفكرية و السياسية في البلاد العربية ، وهذا الجيل الذي كتب عليه أن يعيش على امتداد القرن الماضي و بداية القرن الحالي على وقع تحولات عميقة بل على وقع انقلابات على جميع المستويات. و إذا كان لنا أن نلخص السمات الكبرى لهذه الانقلابات لاستعرنا عبارة لباسكال و قلنا "كم من حقيقة في البداية غدت خطأ عند النهاية. يشهد على ذلك التحول الجذري الذي عرفه القاموس السياسي عند ذلك الجيل..لقد كانت مرحلة سبابه تعج بألفاظ كالقطيعة و الرفض و المعارضة و الثورة و التناقض إلا أنها سرعان ما تحولت إلى ألفاظ تكاد توجد على طرفي نقيض ، مثل الاعتدال و التوازن و الحوار و المرونة و الشراكة و التفاوض و التحالف و التفهم و الوحدة... يفترض هذان القاموسان نوعية من الأخلاق يتعارضان كامل التعارض و يكرسان قيما لا علاقة للواحدة منها بالأخرى، يمكن أن نطلق على الأولى أخلاق المغالبة و الرفض و الثانية أخلاق المعايشة والاعتدال. مضى زمن كان فيه التحديث انفصالا عن الماضي ، والتجديد ثورة على البنيات الاجتماعية و الذهنية، و اليسار معارضة لليمين.أما اليوم فقد أصبح التفاوض و الحوار و التوفيق بين السلب و الإيجاب هو طريق حل كل المعضلات ، بل غدا التوافق نسيج حياتنا اليومية في شتى مظاهرها . يتخذ هذا التوافق في الميدان الاقتصادي معنى الشراكة التي تستهدف إشراك المستهلك في عملية الإنتاج بحيث لا يغدو المنتوج إلا خدمة تقدم إلى المستهلك، لا سلعة تتحايل عليه لتوقعه في مصيدتها. كما يتخذ في الميدان النقابي معنى الحوار بحيث لا يصبح العمل النقابي مطالبة و احتجاجا و استنكارا، وإنما تفهم و تلمس للأعذار و محاولة للمشاركة في إيجاد الحلول لمشاكل تتجاوز المتحاورين و تفرض نفسها على كل الأطراف التي لا تملك أمامها حيلة. يؤكد هذا تلمس الأعذار بالاستناد إلى عوامل "قدرية" كالمناخ الجغرافي و تقلبات الأسواق العالمية و الأزمات الكونية التي لا يملك أمامها لا المطالب و لا المطلوب أية حيلة. أما في الميدان السياسي فيتضح ذلك التوافق في شكل تكتلات بين دول لم تنس بعد الحروب التي جرت بينها، وبين أحزاب كانت إلى عهد قريب تعتبر أن حياة بعضها موت للأخر. لقد أدركت الأطراف الكثيرة سواء على صعيد الأحزاب أو الدول أن الهوة بينها لم تعد و ربما لم تكن بالشكل الذي يعتقد أنها كذلك وان تباين البرامج السياسية و الاختيارات الإيديولوجية و الاستراتيجيات المتبعة لم يكن بالحدة التي كان يتصور انه عليها، فالرأسمالي يمكن أن يلتئم بالاشتراكي ، واليميني يمكن أن يتحد مع اليساري ، والنامي يمكن أن يوجد مع المتقدم. بل أن هذه " التوفيقية" تطبع الفرد اليوم حتى في ذوقه و مأكله و مسكنه و ملبسه ، فهو يبحث أساسا عن كل ما يوفر نوعا من التوازن و يحقق أكثر ما يمكن من التوافق ، فالمرء كما يقول احد المختصين لم يعد يفكر بلغة الغذاء ولا بلغة الحمية و إنما بلغة " الغذاء الصحي" انه يطلب من الملبس البساطة و الجمال ، والمظهر و الراحة، ومن المسكن الأسلوب و المادة ومن الكتابة الإفادة و التركيز. إنها أخلاق جديدة تقبل الحوار بين المتناقضات و الجمع بين الأضداد و التفاوض بين الأطراف و التوفيق بين المتخاصمين. وفي تونس هذا البلد الذي لم يعرف في تاريخه إلا الاعتدال و التوافق..هذا البلد الذي لم يغرق في فوضي الايدولوجيا، التي مزقت بلدانا أخرى تحيط بنا..هذا البلد الذي انعم الله عليه بوحدة المذهب والعرق..لا يمكن أن تسود بين إفراده إلا لغة الحوار و التفاهم و الوفاق دون أية خلفيات أو حسابات إيديولوجية عفا عنها الزمن.. إن كل دعوة للاستئصال أو المغالبة..و كل دعاوي القطيعة أصبحت في زمننا دعاوى تجاوزها الزمن ..بل أن الزمن التونسي و التاريخ التونسي و المصلحة العليا لتونس تفرض على كل الفرقاء أن تسود بينهم فقط لغة التعايش ليكون الوطن هو الأعلى والاسمي والأرقى. دعاوى القطيعة مع النظام التي تصدر بين الحين والأخر هي دعاوى تشرع بطريقة أو بأخرى للعنف و الضغينة حتى وان ادعى مناصروها تبني سلمية التغيير...هي دعاوى تؤسس للفرقة بين أبناء الوطن و تؤخر التنمية و تعطل مسارات الإصلاح. تونس اليوم بحاجة لجميع أبناءها ، لجميع طاقتها الخلاقة للنهوض و الانطلاق..فلا بد من تعميق الرؤية الإصلاحية القادرة على تكريس التعددية و تأسيس ثقافة المشاركة بدل ثقافة القطيعة التي لا تؤدي إلا إلى الفوضى التي يسعى إليها البعض عبر مسميات عديدة، متخفية أحيانا و ظاهرة أحيانا أخرى. فالنظام الديمقراطي المنشود لن يكون إلا عبر تراكم مساعي الإصلاح و السعي إليه عبر نشر ثقافة سياسية متطورة تنتشر عبر الممارسة و ما تنتجه من تدريب على التنافس و المشاركة و المساءلة. لا يجب أن يكون الإصلاح المنشود مستوردا و لا يمكن أن يكون إصلاحا مفروضا بالقوة والعنف بل أن يكون إصلاحا نابعا من ثقافة هذا الشعب و هذا الوطن..ثقافة التسامح و الحب و التصالح والتعايش و التي ميزت تاريخ تونس عبر حقبها المختلفة. و إن كان من العسير على من يمسك اليوم بدواليب هذه الحركات الفكرية و السياسية التنازل عن مقولات القرن الماضي..عن مقولات القطيعة و الرفض و المعارضة..أن يتركوا لجيل القرن الحالي أن يعيش مقولاته حتى تنسجم مع الزمن الحاضر..تطلعاتنا للمستقبل لن يتأسس إلا عبر القطع مع مقولات الماضي المؤدلج و صراعاته المريرة..حاضرنا ومستقبلنا نبنيه عبر الاعتماد على رجالات البلاد و مصلحيها وإرادتهم الصادقة في النهوض بهذا الوطن إلى اعلي درجات الرقي و الازدهار ..حاضرنا و مستقبلنا نبنيه عبر إيمان هذا الشعب بضرورة التعايش عبر نشر ثقافة سياسية تكرسه و تنشره. إن حب الوطن و الولاء له وحده كفيل بان نتنازل عن كل مصالحنا الضيقة لصالح المصلحة العليا و عن مطامحنا الذاتية لصالح نمو المجموعة ورقيها وعن مكاسبنا الآنية لصالح استقرار الوطن وازدهاره المصدر : بريد الفجر نيوز [email protected]