قرر رئيس الوزراء الليبي البغدادي المحمودي إيقاف صحيفة أويا عن الصدور الورقي، بسبب نشرها مقالا يدعو إلى عودة الرائد ركن عبد السلام جلود إلى مقاليد الحكم، كما يدعو بقية أعضاء مجلس قيادة الثورة إلى العودة إلى مناصبهم التي تخلوا عنها منذ إعلان ما يسمى بقيام سلطة الشعب في ليبيا في نهاية السبعينات. أثار المقال الكثير من الجدل وردود الفعل بين الليبيين، ورحب التيار الإصلاحي بعودة جلود الذي اعتزل السلطة منذ 17 عاما، إثر خلاف شديد مع العقيد القذافي، حيث كان جلود يرغب في تأسيس دولة في ليبيا على غرار دول الجوار، لها دستور يحتكم إليه، وبرلمان يحاسب الحكومة، وأحزاب علنية، وقدر من الشفافية فيما يخص القضايا الاقتصادية والمالية، بينما كان القذافي يرى أن "سلطة الشعب" هي الأنسب للبلاد. نشر المقال في صحيفة أويا التابعة لشركة الغد الإعلامية، التي يشرف عليها نجل العقيد القذافي سيف الإسلام، يدل على أنه من أعطى الإذن بنشر المقال مهما كانت العواقب، وخاصة أنه نشر كافتتاحية تعبر عن رأي أويا، وهو ما فسره البعض بوجود خلاف حاد بين العقيد القذافي وأبنه، خاصة بعد انحياز العقيد القذافي إلى ما يعرف بالحرس القديم، في قضية نقابة المحامين بمدينة بنغازي، عكس ما كان يتمناه سيف الإسلام. جلود وسيناريو التوريث في الوقت الذي رحب فيه الكثير من الليبيين في الداخل، وخاصة المحسوبين على التيار الإصلاحي، أو تيار الغد الذي يقوده نجل القذافي بخبر عودة جلود، نظر بعض المراقبين وخاصة في الخارج إلى الموضوع برمته على أنه مجرد محاولة لتزويد الليبيين بشحنة من الأمل، بعد هذه السنوات الطويلة من الانتظار، بينما اعتبره آخرون محاولة لتقطيع الوقت، أو أن استدعاء جلود بعد هذا الغياب الطويل، هو سيناريو آخر للتوريث، حيث يتولى جلود ضرب الحرس القديم، وتنظيف البلاد من اللصوص والمرتشين، من أجل تحقيق حد أدنى من التنمية، تمهيدا لتنصيب سيف الإسلام خليفة لوالده. الدكتور مصطفى الفيتوري أستاذ العلوم السياسية في أكاديمية الدراسات العليا، يرى أن المقال جاء في سياق طبيعي لأنه يشير إلى مشكلة الفساد المنتشر في بعض أجهزة الدولة، وفي حديث مع إذاعتنا أضاف الفيتوري قائلا: "الفساد في القطاع العام مشكلة حقيقية يعاني منها الناس يوميا، وبالتالي أعتقد أن المقال هو محاولة للقول أن هناك عددا من الناس الذين يمكنهم أن يؤدوا مهام عامة في خدمة المجتمع، مثلما كانوا في يوم ما، ولا أعتقد أن به ما يدعو إلى الاستغراب". ويشكك الفيتوري في شرعية قرار رئيس الوزراء الليبي، بحجة أن صحيفة أويا تصدر عن شركة الغد، ولا تصدر عن هيئة عامة تتبع مجلس الوزراء، ويستدرك قائلا "لكن موضوع إيقاف الصحيفة من عدمه ربما كان المقال جزء من قصة أكبر، وهو جدلية استمرار الصحيفة هي وشقيقتها صحيفة قورينا، لأسباب عديدة أولها المشاكل التي تعاني منها شركة الغد التي تصدر عنها الصحيفتان، إضافة إلى ذلك بعض الإشكاليات التي تطرأ بين حين وآخر فيما يخص ما تنشره الصحيفتان، بأسلوب أقول لم يتعود عليه الشارع الليبي، أو حتى المسئولون الليبيون. في مرات كثيرة تخطيء الصحافة وفي مرات أكثر تصيب، لكن علاج مثل هذه المشاكل ليس بإيقاف الصحيفة عن الإصدار". حرية الصحافة كما أشار الدكتور الفيتوري للصعوبات المالية التي تعاني منها شركة الغد، وظروف عدم الاستقرار التي واكبت صحيفة أويا منذ تأسيسها، حيث تغيرا إدارتها ثلاث مرات في سنوات قليلة، ويعبر الفيتوري عن تعاطفه مع مشروع الغد المواكب لروح العصر حسب تعبيره، وأيضا بسبب تخلف الصحافة في ليبيا، وهو ما أكده التقرير الأخير الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود، الذي أفاد بأن حرية الصحافة والتعبير تراجعت في ليبيا، تونس، والمغرب، بينما حافظت كل من الجزائر وموريتانيا على نفس المستوى السابق، وبالرغم من عدم اقتناع الدكتور الفيتوري بهذه التقارير، بسبب ما وصفه باللبس في فهم المفاهيم المحلية مقارنة بالمفاهيم في الغرب، ويصف الفيتوري ليبيا بأنها بلد من العالم الثالث، وأن فكرة أن تكون الصحافة شريك في التنمية فكرة طارئة، مضيفا "تعودنا على أن الإعلام يقدس الوضع الراهن مهما كان، ويمجده ولم نتعود على النقد الذاتي، وربما في هذا الإطار يمكننا فهم الكثير من الإشكاليات التي تقع، والصعوبات التي تواجه الصحافيين، ولكن لا أستطيع القول إن الصحافة في ليبيا حرة مائة بالمائة، وليس هناك صحافة حرة في العلم كله، هناك صاحب المطبعة وصاحب الصحيفة، ورأس المال هو من يملي شروطه، كما طرد العديد من الصحفيين في صحف كبيرة في الغرب، لأنهم خرجوا عن خط الصحيفة". خيار واقعي ويرى الفيتوري أن خيار "الاقتحام النهائي"، وعودة الرائد جلود هو خيار واقعي، مع وجود ضوابط في ليبيا وفقا لنظامه السياسي القائم، حيث المؤتمرات الشعبية، ومؤتمر الشعب العام، كما يؤكد الفيتوري على استمرار فاعلية هذه المؤسسات، بالرغم مما حدث في نقابة محاميي بنغازي، والذي يصفه الفيتوري "بخطأ وقعت فيه أمانة مؤتمر الشعب العام"، لكنه يضيف قائلا "هذا لا يعني أن أخطاء الأفراد تتحمل جريرتها المؤسسات، ربما نظم المحاسبة والتدقيق في البلد ليست كما ينبغي، كما أن أداء القطاع العام ومؤسسات الدولة بشكل عام في السنوات الأخيرة لم يكن في المستوى المطلوب، بل كان مترديا إلى حد كبير، وانتشار حالة بشعة جدا من الفساد، والتي سببت في تعطل التنمية والكثير من المشروعات داخل البلد، خاصة مشروعات البنية التحتية التي رصدت لها البلايين، وبالتالي فإن الناس قد يستحسنون تبديل الوضع القائم على صعيد المؤسسات التنفيذية، والإتيان بأشخاص هم من أعضاء مجلس قيادة الثورة، الذين لا يرقى إليهم الشك، والمشهود لهم بحسن الأداء والصدق والأمانة، قد يرون فيه مخرجا، وأنا شخصيا أجد هذا منطقي، واجد أن عامة الناس على صواب". عنق الزجاجة مهما كانت دوافع نشر المقال والتداعيات التي سببها، والتي يرى البعض إنها هي المقصودة، حيث صرفت التداعيات الأنظار عن أزمات كبيرة أهمها ملف مذبحة أبو سليم، وهروب الياور الخاص للعقيد القذافي، نوري المسماري إلى فرنسا، وبجعبته الكثير من المعلومات الأمنية الخطيرة، إلا أن ما حدث يؤكد الأزمة الطاحنة التي تعيشها ليبيا، فقد انحشرت في عنق زجاجة لا تستطيع معها الخروج أو حتى العودة إلى قاع الزجاجة، في وضع يشبه وضع الكثير من الدول التي تصاب بحالة من العجز الكامل، مثل تونس في أواخر أيام الحبيب أبو رقيبة، أو عمان في آخر أيام سلطانها السابق، بينما تزداد الضغوط على الشارع دون وجود متنفس لهذه الضغوط. أما الرائد جلود فقد تحول إلى خيار بعد هذا الترحيب الداخلي والتحفظ الخارجي، وقد يفعل هذا الخيار إذا اختفى العقيد القذافي فجاءة دون أن يفسح الطريق لأحد أبناءه، كما أن هناك مؤشرات تفيد بأن الخلاف بين الابن والأب قد يتحول إلى ما يشبه القطيعة التي حدثت بين يوسف باشا القرهمانللي وابنه، الذي انضم لقوات المعارضة التي حاصرت طرابلس، حتى تنازل الباشا لابنه الآخر على مقاليد الحكم، بالإضافة إلى أن لعبة التيار الإصلاحي والحرس القديم، التي بدأت بشكل مسلي، حيث يتم فيها تبادل الأدوار بسلاسة، تحولت إلى لعبة دموية تستهدف فقط كسر العظم، وهو ما يجعل مستقبل البلاد غامضا ومقلقا وخاصة للدول الأوربية التي أعادت ليبيا إلى المجتمع الدولي، دون أن تستطيع إخراجها من إرثها الدموي. تقرير: عمر الكدي/ إذاعة هولندا العالمية