تعودت أمهات الأسرى الفلسطينيين في كل يوم اثنين الاعتصام أمام مقر الصليب الأحمر الدولي في غزة، وبعد لحظات من تجمع عدد منهن، يبادرن إلى النشيد الموحد المتعارف عليه، من كلمات الشاعر الفلسطيني معين بسيسو: نعم قد نموت ولكننا، سنقتلع الموت من أرضنا هناك هناك بعيدا بعيد سيحملني يا رفاقي الجنود ويلقون في بي في ظلام رهيب، ويلقون بي في جحيم القيود. نعم؛ إن السجن ظلام رهيب، وأشهد أن جحيم القيود لا يطاق، ولكن الذي يجب أن يعرفه الجميع هو: أن من يريد وطناً عليه أن يدفع الثمن، ومن يريد حرية شعبه عليه أن يكون مقتنعاً أنه يقدم روحه رخيصة، وأن التشكي والبكاء من عتمة السجن ثقافة أناس تعبوا من المقاومة، وضاقوا ذرعاً بالعطاء، وهذا ما لا ينسجم مع حقيقة الشعب الفلسطيني الذي يتفاخر بشهدائه، ويواصل مشواره، لذلك فإن قصيدة الشاعر معين بسيسو لا تنسجم مع المرحلة الراهنة من حياة المجتمع الفلسطيني المقاوم، ولاسيما حين يقول: لقد فتشوا غرفتي يا أخي فما وجدوا غير بعض الكتب وأكوام عظم همو أخوتي يئنون ما بين أمٍ وأب رغم أن الكلمات تشير إلى همجية العدو، أو السلطان الحاكم، وأنه يعتقل الأبرياء، ويعتقل أصحاب الرأي، وأن الفقر والجوع هي سمة الناس الذين يتعرضون للاعتقال، رغم كل ذلك، فإن هذا الأسلوب قد جاء ليعبر عن حال الفلسطينيين في فترات سابقة، قبل أن يرفع الفلسطيني بندقيته، ويفجر ثورته المسلحة، تلك الفترة من القرن الماضي، حين سيطر الفكر اليساري على الشارع الفلسطيني. لقد تبدل الصوت الفلسطيني، وتطور الغناء فيما بعد، وحاكى الواقع بكلمات لها دلالات المقاومة، ورفض الخنوع، والتمرد على قرارات الهدنة، والاستسلام، فجاءت أغنية: وجعلت من جرحي والدماء، في السهل والوديان جدول، دين عليك دماؤنا، والدين حق لا، لا يؤجل. إن الفارق كبير بين التعبير في فترتين، فالأول يبكي تعبيراً عن فترة وجوم، ويتوجع، والثاني ثائر، يعبر عن فترة غضب، وينثر دمه، ويتوعد عدوة ظلت أمهات الأسرى الفلسطينيين يعتصمن أمام مقر الصليب الأحمر، ويرسلن رسائلهن إلى القيادة السياسية، وإلى المجتمع الدولي، بأن لهن أولاد، وأخوه، ورجال وأحبة، معتقلون في واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط، والأمل أن يضغط المجتمع الدولي على دولة الكيان كي يتلطف، ويرحم، ويطلق سراح الأسرى، ولكن دون جدوى، لقد ضاع صدى الصوت، وامتصت تردداته طاولة المفاوضات، ولم تتجاوب إسرائيل مع نداء السلام الفلسطيني، حتى جاءت انتفاضة الأقصى، وتغير الحال، وصارت القذائف تصل العمق الإسرائيلي، وصار الموت يطوف في شوارع إسرائيل، وصار للإسرائيليين جندياً أسيراً في سجون قطاع غزة، فإذا بالكلمات تتجاوب مع حب الشهادة، وتأتي الأغنية لتقول: فتنت روحي يا شهيد، علمتها معنى الخلود شوقتها إلى الرحيل، علمتها معنى الصمود يقولون مات فكيف سنوقف حزن العصافير حين تمر على صفحة الشمس كي ما تراه يقولون مات فكيف سنوقف حزن الحقول إذا غافلتنا بدعوته لافتتاح الربيع؟ وكيف سنوقف حزن المآذن حين تنادي صباحاً عليه، ولا يستجيب؟ فلا ترتحل من هنا يا حبيب وأرواحنا الصامتات امتشقها، وعلّق جدائلها بالسحاب فما جرح هذا الزمان احتضار، ولا صوت هذا المدى بالنحيل وأنت احتقان العواصف فينا، إذا غاب صوتك، مات اللهيب.