لا يمكن لأي أحد له قدر يسير من الثقافة القانونية أن يصدّق أنّ موعد 2009 استحقاق انتخابي دستوري ولا أن ينسى أنّ تونس لم يكن لها يوما الدستور والبرلمان اللذان استشهد من أجلهما أبناؤها. فدستورنا ولد ميتا، فكان نصا كثير الرقع والثقب عبث به غرور بورقيبة وجنون عظمته قبل أن يصير خرقة يطويها بن علي ويمدّها كلّما احتاج ذلك لتأكيد حكمه البوليسي وإعطائه صورة دولة القانون. أمّا برلماننا فمحفل للدمى المتحركة التي تصنع القوانين حسب طلب الحاكم وحاشيته وحتى عائلته. ولا يحتاج المرء إلى الدراسة في أحد المعاهد العليا للعلوم السياسية لكي يدرك أنّ موعد 2009 ليس موعدا أساسيا لأنّ هذا المرء يرى ويسمع ويدرك أنّ تونس لا تدار بالسياسة ولا بالسياسيين بل بعصا البوليس وحكم مناطق النفوذ ومجموعات المصالح... وبإدارة تصريف أعمال تؤمّن استمرار الدولة أو ما يبقى منها. ولا يمكن لمن يعرف أنّ الانتخابات ماهي إلاّ تتويج لممارسة ديمقراطية يومية فيها الحريات وحقوق الإنسان وفيها أحزاب تستطيع العمل بحرية والاتصال بالناس لاطلاعهم على برامجها... وفيها إدارة محايدة تضمن حسن سير العملية الانتخابية وشفافية الاقتراع والنتائج أن يصدّق لحظة أنّ 2009 موعد انتخابي لأنّه يرى أنّ الموجود في بلادنا هو أحزاب كرتونية تابعة أو مستقلة مقيّدة وأنّ الحريات مفقودة في تونس فلا التعبير حرّ ولا الاتصال بالناس ممكن وما الاقتراع عندنا إلاّ لعبة تقليد قرديّة لتقنية الانتخاب. إذن موعد 2009 ليس استحقاقا انتخابيا ولا سياسيا ولا دستوريا بل هو التاريخ الذي قرر فيه بن علي ومن معه أن يعرضوا الجزء الخامس من مسرحيتهم المعروفة نهايتها قبل بدايتها وأن يحاولوا تغطية دمامة الحكم البوليسي وبشاعته بمساحيق الديمقراطية التي لا تفلح في تغطيتها بل تزيدها ظهورا وانفضاحا. هذه خامس مرة يلعب فيها النظام لعبته الانتخابية التي لم تعد تجد من الجمهور اهتماما بل ازدراء أخرس ولا مبالاة. ولكن ماذا عن النخب المهتمة بالشأن العام والتي لا يمكنها بحال أن تتجاهل اللعبة مهما كانت تفاهتها ؟ هناك نخبة من المهتمين بالشأن العام غير المنخرطين فيها بجدية ترى في هذه اللعبة مجرد مادة للفرجة فتنتظر موعدها لترى كيف يلاعب النظام القوي الأقلية الضعيفة التي تقاومه ولتعرف كيف سيحوّر بن علي دستوره حتى إذا جاء الجواب الفاجع رأيت هذه النخبة تتندّر "بشيطنة" النظام البارعة وتضحك حتى الدموع على خيبتها وقلة حيلتها. وهناك نخبة لا تحبّ أن تبقى متفرجة ولا أن تضحك على خيبتها بل تحاول أن تكشف اللعبة وتتجاوز الخيبة وأن تخرج بالوضع من الحلقة الفارغة والتي تزداد ضيقا بازدياد ممارسات النظام خرقا وانحطاطا. ولكن هذه النخب- ولسوء الحظ- لم تتوصّل إلى التأثير في الواقع وإن توصّلت إلى فضح انحرافات النظام بعض الشيء. لا أريد هنا محاسبة أحد من المعارضة ولا التعريض بسوء اختياراته في المواعيد "الانتخابية" كما لا أريد التنويه بأحد والقول إنّه كان على صواب في مواقفه، بل ما أريد قوله هو أنّ عشرين سنة من الكذب على أنفسنا وعلى الناس ومن انتظار ما لا يأتي تكفي ! اليوم علينا أن ندرك أنّ هذه المواعيد الانتخابية التي يختلقها النظام ليست استحقاقات حقيقية ويمكن أن نشارك فيها ولو مشاركة احتجاجية لأنّ المشاركة فيها تعطيها جدية لا تستحقها. وأنّ من العار علينا أن نقف حيالها متفرجين لأنّ الفرجة عليها استقالة تلامس الخيانة وتأييد غير مباشر لممارسات النظام وأفاعيله. ولكن هذا لا يعني يجب أن نتجاهل هذه المواعيد وأن نتركها تمر على النظام بسلام يرسي مكانته ويمدّه في غيّه. موعد 2009 بالذات وما يكتنفه من تأزم اجتماعي يؤذن بالانفجار يجب أن يكون فرصة لبداية مرحلة جديدة في مقاومة الاستبداد مقاومة صريحة وشجاعة وكذلك مسؤولة وأعني بالمسؤولية مسؤولية المعارضة الوطنية حيال الشعب ومستقبل البلاد. لست آتية بحل سحري بل أنا مذكّرة بأفكار يعبّر عنها الناس هنا وهناك: إنّ الخروج بالبلاد من دوّامة المواعيد الكاذبة مرتهن بأربعة أشياء من السهل الذي ظلّ ممتنعا وهي: - هدف واضح ومتناسب مع الوضع الذي صرنا فيه بعد عشرين سنة من المماطلات وانتظار انصلاح ما لا ينصلح. وهذا الهدف هو التغيير الجذري والقطع نهائيا مع حكم البوليس والعصابات... إنّه شيء شبيه بحركة "كفاية" المصرية التي استصغر كثيرون شأنها وقلل من قيمتها إلى أن فوجئوا بفعلها المتدرج في المجتمع المصري الخارج كل يوم من سلبيته استجابة لنداءات كفاية. _ إطار جامع يؤلف بين الأطراف المعنيّة بالتغيير ويضمّ جهود بعضها إلى جهود بعض. ويجب أن يكون هذا الإطار إطارا للجميع بلا إقصاء ولا توظيف لصالح فئة دون أخرى وأن يكون إطارا سياسيا يخدم الهدف المذكور وليس حقوقيا يحاول أن يحلّ محلّ الجمعيات ولا فكريا يهدر الوقت والجهد في مناقشة قضايا غير ملحّة ولا ذات صلة مباشرة بالتغيير المنشود. - خطط مرحلية محكمة تتدرّج من موعد 2009 وتمتدّ إلى ما بعده حتى تصل إلى المؤتمر الوطني الديمقراطي الذي طالما وقع ترحيله من موعد إلى آخر. - وسائل عمل مستحدثة تقطع مع الوسائل القديمة التي لم يعد لها مفعول يذكر على النظام. على المعارضة أن تغيّر ما بها قبل أن تتطلّع إلى تغيير النظام... وبكلّ نزاهة، علينا أن نعترف بأنّ النظام يطوّر وسائل قمعه أكثر ممّا تطوّر المعارضة وسائل مقاومتها. السيدة نزيهة رجيبة (أم زياد) –كلمة تونس – 15 ماي 2008