تتشتت الأفكار الليبرالية في الأردن بتعبيرات متفرقة، سواء في الساحة السياسية أو الثقافية أو الاقتصادية، ولا يوجد بينها أدنى رابط أو تنسيق يضعها في سياق متناغم متكامل يشكل ندًّا موازيًا للسياقات الأيديولوجية الأخرى. على الصعيد السياسي؛ تظهر الليبرالية بصورة ضعيفة من خلال بعض الشخصيات، سواء في مؤسسات الحكم أو المعارضة، دون وجود قوة سياسية تتبنّاها ترتكز على رافعة اجتماعية. وفي الوقت الذي تعج الساحة السياسية والفكرية بالتيارات والقوى الأيديولوجية الأخرى، فإنّ الخطاب الليبرالي لا يكاد يُسمع صوته. أبرز الصور الليبرالية الجديدة تتمثل بوجود نخبة اقتصادية نافذة في مؤسسات صنع القرار، تتبنى الليبرالية فقط في المجال الاقتصادي (ويغيب خطابها في المجال السياسي والثقافي)، وتدعو إلى إدماج الاقتصاد الأردني بالاقتصاد العالمي، والمسارعة في تطبيق برنامج إصلاح اقتصادي يقوم على التخاصية، وتمكين القطاع الخاص، والدفع باتجاه تحريك عجلة الاستثمار، والتخلي عن دور الدولة الاقتصادي. من الصعوبة بمكان اعتبار هذه النخبة تعبيرًا جليًّا عن التيار الليبرالي (الوطني) لأسباب عديدة، في مقدمتها أنّها لم تأت بصورة ديمقراطية، ولم تُعبّر عن حاضنة اجتماعية معينة، فتكاد تكون معزولة في سُدَّة القرار، دون واجهة سياسية جماهيرية أو صورة مميزة، فهي تتماهى تمامًا مع السياسات الرسمية، ولا توجد لديها أية محاولات سابقة للتشكل الخاص المتكامل، إلّا بعض المحاولات الجديدة التي تحاول أن تتسربل بالعنوان "الليبرالي"، لكنها لم تنضج بعد. خارج المؤسسات الرسمية؛ ثمة تعبيرات مختلفة عن الليبرالية في مؤسسات المجتمع المدني، التي انتشرت وازدهرت منذ عقد التسعينات في القرن المنصرم، كمؤسسات حقوق الإنسان، وجمعيات المرأة، ومؤسسات الأبحاث والدراسات، والمؤسسات المدنية الأخرى. ولا يختلف حال مؤسسات المجتمع المدني كثيرًا عن واقع النخبة الاقتصادية؛ إذ تعاني هذه المؤسسات من اختلالات بنيوية، فلا تزال نخبويةً غير مؤثرة في المجتمع والشارع، ولم تحاول تقديم خطاب سياسي مباشر، بقدر ما اعتمدت على ظاهرة المؤتمرات والندوات. وفي سياق تفسير عجز الرهان الليبرالي، فإنّ هنالك عواملَ عديدةً، في مقدمتها القضية الفلسطينية والظروف الإقليمية، مثَّلتْ دورًا كبيرًا في منح المشروعية، والمساحة الاجتماعية الواسعة للتيارات القومية واليسارية ثم الإسلامية. في الوقت الذي عانت فيه النخبة الليبرالية من الصورة النمطية السلبية تجاه السياسات الغربية للدول الليبرالية، مما شكّل حاجزًا رئيسًا من القبول الشعبي لليبرالية. الشرط التاريخي الرئيس المفسّر لعدم تشكل التيار الليبرالي يرتبط بتلك اللحظة التي شعرت فيها النخبة الليبرالية أنّ مصالحها متماهية مع مؤسسة الحكم ، ولم تحاول الاستقلال وأخذ مسافة تحمي خطابها وأفكارها من الذبول والتلاشي. ففقد الليبراليون الواجهة الفكرية والسياسية المستقلة، كما فقدوا الرافعة الاجتماعية، ولم يسعوا إلى بناء خطاب واضح الملامح يبحث عن رافعة اجتماعية. وفي المقابل تمكّن اليساريون والقوميون ثم الإسلاميون من لعب دور الخصم السياسي والموضوعي للسياسات الرسمية، خلال السنوات السابقة، ما منحهم دعمًا اجتماعيًّا وسياسيًّا شعبيًّا. ولم تساعد الديناميكية الاقتصادية الأفكار الليبرالية بإيجاد موضع قدم في المجتمع، فقد توزع النشاط الاقتصادي بين قطاع عام تملكه الدولة وبين قطاع خاص ضعيف في المجال السياسي، تتحالف النخبة الأعلى فيه مع السياسيين في سياق المصالح المتبادلة. ربما الحال تغيّرت، بعض الشيء، على الصعيد الاقتصادي في التسعينات، مع المسارعة في تطبيق برنامج الخصخصة والإصلاح الاقتصادي؛ فبدأت نخب من رجال الأعمال تبرز بصورة واضحة في المجال الاقتصادي، إلاّ أنّها - إلى الآن- لم تقم بدور سياسي فاعل. الملاحظة الرئيسة، في هذا السياق، أنّ الدورة الاقتصادية الداخلية لم تشهد تطورًا صناعيًّا ملموسًا، ولا قفزات إنتاجية خلال العقود السابقة تؤدي إلى تشكُّلِ طبقةٍ برجوازية خاصة ترى في الليبرالية حماية لمصالحها ودورها الاقتصادي والسياسي في مواجهة التيارات الأخرى، كما كانت عليه الحال في أوروبا أثناء مرحلة الثورة الصناعية التي أدّت - وَفقًا للمؤرخين- إلى ولادة طبقات اقتصادية جديدة، وجدت في الخطاب الليبرالي أيديولوجيا مناسبةً تعكس أهدافها ومصالحها الاجتماعية والسياسية المختلفة. فلم تستطيع "النخبة الاقتصادية" الليبرالية (في الأردن) تكوين وتنفيذ خطاب تنموي للبرجوازية الوطنية يمكن أن يشكل رافعة اجتماعية ونموذجا تنمويا، بل بقيت مقتصرةً في أهدافها على تحقيق المكاسب المالية، والابتعاد المتواصل عن البنية التقليدية للمجتمع الأردني، وترك مهام التنمية للدولة والمجتمع المدني بإمكانياتهما المالية المتآكلة. من الإشكاليات الموضوعية الرئيسة التي تقف في وجه الأفكار الليبرالية طبيعة التوزيع الديموغرافي وأبعاده السياسية الداخلية؛ إذ بدأ منذ عام 1970 توزيع وتقاسم أدوار، في المجال السياسي والاقتصادي بين المواطنين من أصل أردني، والمواطنين من أصول فلسطينية. لقد ساهمت الأزمة البنيوية لدى من يحملون أفكارًا ليبرالية- بالتوازي مع الظروف التاريخية والموضوعية- في حالة العجز الكامل الحالية، فبناء تيار ليبرالي فاعل في الساحة الأردنية يتطلب شروطًا أساسية، يأتي في مقدمتها تقديم خطاب سياسي وفكري متكامل، والبناء على عملية تنوير ديني، ثم إيجاد قاعدة اجتماعية تحمل الليبرالية، وأخيرًا: الاشتباك مع الحياة السياسية والإعلامية والثقافية.