صناعة القتل والمسؤولية الأخلاقية: لطيب بوعزة الطيب بوعزة علم القتل وعلم الحياة في الحاجة إلى حلف ضد التسلح القنبلة العرقية هل هذا مجرد خيال علمي أم حقيقة؟ عَرَّف ول ديورانت وظيفة العلم بكونه "يعلمنا كيف نقتل وكيف نشفي"! مشيرا بذلك إلى تطور تقنية السلاح وتطور علم الطب في النصف الأول من القرن العشرين، أي تطور ما يمكن أن أسميه "علم القتل" في مقابل "علم الحياة". غير أن المقارنة بين المجالين تظهر بونا شاسعا يصح معه أن نقول إن التحديد الوظيفي للعلم اليوم هو أنه يعلمنا كيف نقتل أكثر من كيف نشفي. هذا إذا علمنا حقا كيف نشفي, لأن النظر في منتجات علم الطب تؤكد أن أكثر الأمراض المتداولة اليوم هي من صنع العلم ذاته بسبب تحويله التقني الفاسد لنمط العيش! علم القتل وعلم الحياة بل إن النظر في حجم الإنفاق العسكري يكفي لإبصار هيمنة علم القتل على علم الحياة. وإذا كانت إحصائيات الإنفاق لعام 2007 الذي يؤذن بالانتهاء بعد أيام، لم تُذَعْ بعد، فإن عام 2006 شهد إنفاق 1204 مليارات دولار. بمعنى أنه إذا تم تقسيم هذا المبلغ على ساكنة الأرض، فإن المعدل الناتج هو حوالي 184 دولارا لكل فرد! هذا في زمن لا نزال نسمع فيه عن المجاعات القاتلة والأمراض الفتاكة التي لا يرصد لها إلا نزر من المال قليل بالقياس إلى ما يرصد لصناعة القتل، بل ولا يرصد ذلك القليل إلا بدافع تجاري يُنظر فيه إلى العائد الربحي أولا لا إلى القصد الاستشفائي! " إذا كان التقتير يحكم الصرف على الأدواء المصنفة بأمراض الفقراء، فإن المفارقة أن الصرف يتم بسخاء على تقنية صناعة القتل، بل يتم تعميم توزيع منتجاتها، مع الاحتراس فقط من نقل الأسلحة النوعية، وذلك بهدف ضمان استمرار تفوق الدول القوية " كثيرة هي الأمراض المصنفة ضمن أمراض الفقراء التي لا يلتفت إليها؛ لأنها حتى لو تم ابتداع علاج لها فالحاصل الربحي لن يكون عاليا، وبالتالي يتم إهمالها من قبل المختبرات العلمية التي هي في الأصل تتحرك بعقلية التاجر النهم لا بعقلية العالِم الذي يستشعر صوت ضميره الأخلاقي! وإذا كان التقتير يحكم الصرف على الأدواء المصنفة بأمراض الفقراء، فإن المفارقة أن الصرف يتم بسخاء على تقنية صناعة القتل، بل يتم تعميم توزيع منتجاتها، مع الاحتراس فقط من نقل الأسلحة النوعية، وذلك بهدف ضمان استمرار تفوق الدول القوية. ودليل ذلك أن الدول الغربية تحرص على بناء سياسة تسويقية شاملة لدول الفقر ودول الغنى على حد سواء!! إذ حتى الدول الفقيرة يحرص الغرب على إرغامها لتصبح سوقا لسلاحه يستنزف ثرواتها، وذلك بإذكاء الصراعات المفتعلة بينها. وهكذا تطالعنا على شاشات الفضائيات مشاهد في قمة العبث تظهر لنا، في أفريقيا مثلا، إنسانا حافيا عاريا لا يمتلك حتى صندلا بقيمة درهم، يحشو فيه قدميه الحافيتين، بينما يحمل فوق كتفيه مدفعا يساوي آلاف الدولارات أو يمتطي دبابة تساوي ملايين!! والإنفاق على تقنية القتل يبدو دوما في تصاعد يكذب كل التوقعات التي تنبئ بتراجعه. فقد كان ظنُّ المراقبين لتطور سباق التسلح أنه بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وما تلاه من توقيع معاهدات الحد من الأسلحة، سيتم الانتقال نحو أفق عالمي جديد تؤسسه قيم السلم التي تحفز على الالتفات إلى الإنفاق في مجالات أخرى غير المجال العسكري! في هذا السياق جاءت مثلا اتفاقية ستارت سنة 1991 التي كانت محادثاتها قد بدأت سنة 1982. وتلا هذه المحادثات عقد معاهدة تقضي بخفض القذائف النووية البعيدة المدى بنسبة 30% والحد من أعداد الأسلحة الإستراتيجية. غير أن المراقبين اليوم يتحدثون، في ظل التوتر الجديد بين واشنطنوموسكو، عن إمكان التخلي عن تجديد هذه الاتفاقية مع نهاية عام 2009. لكن الأمر لا يحتاج إلى إعلان التخلي عن تجديدها؛ فقد تم التراجع فعليا عنها وهي قيد السيران، حيث من المعلوم أن أميركا لم تلتزم بما اتفقت عليه فيما يخص الصواريخ الباليستية، بعد أن انخرطت في مشروع بناء الدرع الصاروخي. وبالنظر إلى المعطيات السابقة فإننا لن نبالغ لو قلنا إن الإنسان المعاصر في أمس الحاجة إلى الأنسنة، فوضعه الأخلاقي والمجتمعي يظهر نقصا كبيرا في القيم الإنسانية التي ينبغي أن توجه سلوكه وتفاعله مع ذاته ومع الوجود. " مهمة التفكير النقدي في مسلك علم القتل في لحظتنا المعاصرة أصبحت ضرورية وملحة، ليس فقط من أجل التحذير من هذا المسار التوحشي الذي انزلقت فيه البشرية، بل أيضا من أجل تكوين ثقافة جديدة تستشعر المسؤولية الأخلاقية لبناء وعي وفعل إنسانيين " كما لن نبالغ لو قلنا أيضا إن تحضره المزعوم اليوم لم يجاوز إتقان بناء حضارة الأشياء، حضارة الطوب والإسمنت والحديد، ثم هَدْمها من بعد ليعاد بناؤها على ذات النسق أو على نحو مغاير شكليا بسلوك سيزيفي يبدأ ويعيد على نحو من اللهو العابث! لن نبالغ؛ بل يكفي النظر إلى هذا الجري اللاهث وراء صناعة القتل لتأكيد تغول البعد الحيواني في كيان الإنسان، ونظمه الثقافية والحضارية الراهنة, لأنه في المحصلة النهائية لا يعدو أن يكون نوعا من تقوية المظهر الوحشي لهذا الكائن الذي يقال إنه "حيوان عاقل". فالتسلح في أساسه مجرد تطويل للأنياب والأظافر البشرية التي لاحظ الكائن البشري، منذ لحظة بدائيته، أنها دون أنياب الحيوان وأظافره طولا وقوة! فبدأ منذ تلك اللحظة في التفكير في تقويتها فابتدأ بالحجر المسنن، وانتقل إلى الرمح والنبل، ثم نجح هذا الكائن البدائي بعد أن ابتدع المختبرات العلمية بصنع نبال قافزة سماها صواريخ، أخذ ينتشي فرحا بقدرتها على عبور القارات وإحداث الدمار الشامل للأرض ومن عليها! إن مهمة التفكير النقدي في مسلك علم القتل في لحظتنا المعاصرة أصبحت ضرورية وملحة، أقصد التفكير من مختلف المداخل المنهجية المؤثرة، ليس فقط من أجل التحذير من هذا المسار التوحشي الذي انزلقت فيه البشرية، بل أيضا من أجل تكوين ثقافة جديدة تستشعر المسؤولية الأخلاقية لبناء وعي وفعل إنسانيين يدرك أن الوقت حان للإسراع في تقليم أظافر الوحش البشري، ومنعه من التسلي بتكشير الأنياب! في الحاجة إلى حلف ضد التسلح وكما يوجد اليوم حلف ضد العولمة نحتاج إلى حلف ضد التسلح بمختلف أنواعه, لأن الحاجة ماسة خاصة بعد أن بلغت صناعة القتل مستوى ينذر بإمكان الفناء الشامل. ولا نحتاج هنا إلى استحضار ما يوضح ويؤكد قدرة العلم على إنجاز الفناء، فهي أظهر من أن تحتاج إلى بيان وإيضاح، لكن يكفي في هذه السطور التذكير بتحولات صناعة السلاح في القرن العشرين. فمنذ القنبلتين الذريتين اللتين ألقتهما أميركا على اليابان، اتضح أن الكائن الإنساني نجح في صناعة القتل والهدم على نحو فاق كل إمكاناته وممارساته في حقل الطب والمعرفة البناءة. فالقنبلة الملقاة على هيروشيما دمرت 13 كيلومترا مربعا من مساحة المدينة، وقتلت ما بين سبعين ومائة ألف شخص، في حين قتلت القنبلة الملقاة على ناجازاكي ما يزيد على أربعين ألف شخص. وقد وقفت تلك الكائنات العجيبة المسماة بالعلماء مندهشة وفرحة في ذات الوقت! أمام القدرة التدميرية الهائلة لما أبدعوه، إذ إن هذه القنبلة الصغيرة -سمتها أميركا باسم رمزي هو "الليتل بوي" أي الولد الصغير!! وهي تسمية دالة بحد ذاتها على العقل العابث المفتقر إلى أدنى درجات الحس بالمسؤولية الأخلاقية- استطاعت أن تحدث مقدارا من القتل والدمار ما لو أريد إحداثه بقنبلة "تي أن تي" مثلا لاحتاجوا إلى اثني عشر ألف طن متري من ثلاثي نيترو التولوين!!! " منذ القنبلتين الذريتين اللتين ألقتهما أميركا على اليابان، اتضح أن الكائن الإنساني نجح في صناعة القتل والهدم على نحو فاق كل إمكاناته وممارساته في حقل الطب والمعرفة البناءة " إننا إذ نتحدث عن قنبلة هيروشيما وناجازاكي، لا نورد إلا مثالا أصبح اليوم بدائيا بالقياس إلى ما بلغته تقنية السلاح النووي، حيث وصلت درجة التطور في حقل تصنيع القنبلة النووية إلى مستوى أخطر بكثير. فقد كانت قنبلتا هيروشيما وناجازاكي قنبلتين انشطاريتين، غير أن تقنية الدمار الشامل اليوم بلغت مبلغا أخطر في تطوير صناعة القتل. فالقنابل النووية اليوم انتقلت إلى أسلحة حرارية نووية، فلم تعد أسلحة انشطارية بل أسلحة إلتحامية، وهي بذلك أكثر فتكا وتدميرا. فإذا كان السلاح الذري الانشطاري يقوم على نظرية تحويل المادة إلى طاقة، بفعل انشطار نُوَيَّاتِ ذرات اليورانيوم والبلوتونيوم، فإن القنابل الالتحامية، التي يتم التركيز اليوم على صناعتها، تقوم على نظرية تحويل المادة إلى طاقة بتوحيد نويات نظائر الديوتيريوم والتريتيوم لتصنع نواة واحدة. القنبلة العرقية بل إن تقنية صناعة القتل أصبح سياق تطورها اليوم ينذر بتحولات نوعية بالغة الخطورة، حتى وصل إلى التجريب على نوع جديد من القنابل يسمى ب"القنابل الإثنية" أو العرقية! وإذا كان السائد حاليا هو استعمال تعبير "القنبلة العرقية" بمدلول سياسي يُراد به معنى إلقاء الفكرة العرقية داخل مجتمع متعدد الأعراق، الأمر الذي يخلص به إلى التشتت والتوزع والتصارع فالانقسام؛ فإن حديثي هنا هو عن أمر آخر أكثر خطورة من هذا المدلول السياسي الذي عادة ما يقترن بهذا التعبير. لقد أصبح للقنبلة العرقية معنى "علمي" يتم إنجازه داخل مختبرات التصنيع الحربي، ومن ثم فتعبير القنبلة العرقية أستعمله هنا في سياق التصنيف لأحد أسلحة الدمار والإفناء البيولوجية. لنتخيل مجتمعا متعدد الأجناس والأعراق، ولنتخيل وجود إرادة لإبادة عرق محدد من هذه الأعراق المتعددة. إنه يكفي لتحقيق ذلك إلقاء قنبلة إثنية مصنوعة خصيصا لقتل العرق المقصود، فيتم إفناؤه إلى الأبد واستثناء غيره من الأعراق التي قد تجاوره أو تساكنه نفس البيت! هل هذا مجرد خيال علمي أم حقيقة؟ إن التطورات العلمية في الغرب وروسيا وكذا إسرائيل تؤكد وجود سعي حثيث نحو امتلاك هذا النوع من السلاح القائم على معطيات مستفادة من تطور الهندسة الجينية في حقل علم البيولوجيا. ومما نشرته مجلة المجتمع الكويتية في عددها 1773 بتاريخ 26 أكتوبر/تشرين الأول 2007 تصريح لأليكس أبلوكوفا المستشار العلمي للرئيس الروسي السابق يلتسين يقول فيه إن "أبحاث الأسلحة البيولوجية جدية للغاية، ويجب أن تستقطب اهتمام المجتمع الدولي". " إذا كان القتل على أساس بيولوجي لا يزال في طور البحث، فإن ما تسرب عن هذه المختبرات إلى بعض وسائل الإعلام أمر دال على قرب الانتقال إلى أنماط جديدة في صناعة القتل غير مسبوقة، وربما غير مظنونة حتى في الخيال! " ويضيف: "أول ما تسرب عن هذه التجارب نشر سنة 1988 في مجلة دهر كوهين ريبورت.. وتحدثت عن البرنامج البيولوجي الإسرائيلي لصنع قنبلة عرقية لإبادة الفلسطينيين العرب". وتقول فنيان كاتنسون من الجمعية الطبية البريطانية: "من يقوم بأبحاث في مجال التعدين الوراثي يستطيع استخدامها لصنع أدوية ولقاحات جديدة، قد يكون هدفه توفير علاج للمرضى، أو على العكس، إيجاد طريقة لقتل الناس على أساس عرقي وديني ومذهبي بواسطة سلاح بيولوجي، والخط الفاصل بين النزعتين رفيع جدا". بل إن السلاح السري الغريب الذي تم استخدامه ضد المقاتلين الشيشان في مسرح موسكو، الذي انتهى إلى مقتلهم مع مجموعة من الرهائن، يقال أنه كان سلاحا عرقيا! غير أن نتيجة العملية أكدت أن الأبحاث العلمية الروسية في مجال القنبلة العرقية لا تزال تفتقر إلى تحديد الخرائط الجينية الوراثية للأعراق وضبط الحدود الفاصلة بينها, الأمر الذي جعل العملية تفشل، حيث لم يميز الغاز البيولوجي بين الشيشاني والروسي، فكان القتلى من الجميع. وسواء صح هذا الخبر أم لم يصح، فإن الأكيد أن صناعة السلاح أخذت تفكر بجدية في استثمار علم البيولوجيا كما استثمرت من قبل من علم الفيزياء! وإذا كان الأمر لا يزال اليوم في طور البحث، فإن ما تسرب عن هذه المختبرات إلى بعض وسائل الإعلام أمر دال على قرب الانتقال إلى أنماط جديدة في صناعة القتل غير مسبوقة، وربما غير مظنونة حتى في الخيال!