فاجأني نائب وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط بالقول إن واشنطن رغم المشاكل الكبرى التي تواجهها في المشرق العربي، لم تغير موقفها من مسألة الديمقراطية، ولا تزال مستمرة في دعم الديمقراطيين في العالم العربي. قلت: للأسف إن إستراتيجية الولاياتالمتحدة لإعادة هيكلة الشرق الأوسط الكبير قد أجهضت الحركة الديمقراطية العربية الوليدة، وعمقت شرخين كبيرين يقفان حائلا دونها: الأول بين الرأي العام العربي والغربي والثاني بين النخب العربية الحاكمة وشعوبها.
ولن يكون من الممكن بعد الآن إحراز أي تقدم ثابت في هذا المجال من دون تغيير عميق مسبق في إستراتيجية الولاياتالمتحدة -والغرب عموما- في الشرق الأوسط، ومن دون التوصل إلى حلول أو بداية حلول جدية وعادلة للنزاعات والصراعات الإقليمية التي تنخر في عمق المجتمعات وتشل الرأي العام عن التفكير في حاضره ومستقبله معا. من دون ذلك سيستمر التراجع الذي شهده الوضع الأمني والسياسي والثقافي في عموم المنطقة، ويزداد الميل فيها نحو الاضطراب والفوضى والخراب. " الإستراتيجية التقليدية الغربية قامت على تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية في المنطقة: ضمان تدفق النفط للدول الصناعية, وضمان الأمن والسلام والاستقرار والازدهار لإسرائيل, والاحتفاظ بالمنطقة تحت النفوذ الغربي الحصري " قامت الإستراتيجية التقليدية الغربية، كاستمرار للحقبة الاستعمارية أو امتداد زمني وفكري لها، على تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية في المنطقة: الأول- ضمان تدفق النفط للدول الصناعية بصورة أكيدة وبأسعار متهاوية، ما جعلها تنظر إلى المنطقة كمستودع لآبار النفط تنبغي السيطرة عليه والتحكم بمصيره، من دون اعتبار لشعوبها ومصالحهم ومطامحهم وآمالهم وآلامهم، وهو ما قادها إلى القبول بتهميشهم لصالح النخب الحاكمة، وضمان استقلال هذه النخب عن شعوبها، وتدعيم قدراتها في مواجهتهم وضد إرادتهم، باعتبار ذلك من اللوازم الضرورية لتحقيق الهدف الإستراتيجي الأكبر. الثاني- ضمان الأمن والسلام والاستقرار والازدهار لإسرائيل باعتباره هدفا رئيسيا من أهداف السياسة الغربية في الشرق الأوسط، وتقديمه على أي هدف أمني آخر، أي صرف النظر عن أمن المنطقة المحيطة بها، وفي الغالب على حساب أمن هذه المنطقة وشعوبها. وهذا ما ترجم بدعم غير مشروط للسياسة الإسرائيلية مهما كانت أهدافها ووسائلها استعمارية ولاأخلاقية، وضمان التفوق العسكري والإستراتيجي الساحق لها على دول المنطقة برمتها. وهو النموذج الذي ستعممه النخب الحاكمة على البلدان التي تحكمها، أعني ضمان أمن النظم من خلال زعزعة أمن الشعوب وتهديد استقرارها وتحويلها إلى هشيم لا قوام له ولا بنيان. الثالث- الاحتفاظ بالمنطقة تحت النفوذ الغربي الحصري ثم الأميركي، والصراع من أجل ذلك ضد أي قوى دولية أو محلية تهدد هذا النفوذ الذي تحول إلى أمر واقع، وجعل التدخلات العسكرية واستخدام القوة لضمان هذا النفوذ أمرا طبيعيا ومشروعا في كل مرة يتعرض فيها للتهديد، ما حول المنطقة إلى مسرح لحرب باردة مرهقة استنفدت مواردها ودمرت مؤسساتها، وسلمتها فريسة سائغة لكل أصحاب المشاريع السلطوية الفردية والعائلية. لن يكون من الممكن بعد الآن الاستمرار في مثل هذه الإستراتيجية، سواء بسبب انهيار الصدقية الإستراتيجية الأميركية والإسرائيلية، أو بسبب القطيعة الهائلة التي حصلت بين النخب الحاكمة التي كان الغرب يراهن عليها وبين شعوبها، أو بسبب صعود قوى جديدة في آسيا وفي المنطقة ذاتها، لديها ما يكفي من الموارد والوسائل لتفرض نفسها شريكا أو منازعا على الهيمنة مع الغرب والولاياتالمتحدة. وعندما أقول لم يعد من الممكن الاستمرار في مثل هذه الإستراتيجية فأنا أعني أن الأميركيين والغربيين عموما لن يستطيعوا تأمين تدفق النفط لفترة طويلة مع الاستمرار في تجاهل مصالح شعوب المنطقة ولا من خلال تغذية الخلل الإستراتيجي الهائل على مستوى العلاقات الإقليمية بين إسرائيل والعالم العربي، ولا عبر التمسك بدعم النظم الفاسدة والتعسفية التي تتصرف كما لو كانت البلدان ملكا عقاريا لها، ولا بالتدخلات العسكرية. وإذا لم ينجحوا في تغيير مقاربتهم الإستراتيجية للمنطقة فلن تكون النتيجة تحقيق مصالحهم الحيوية، ولا تأمين إسرائيل المتفوقة عسكريا بشكل أفضل، ولا توافقاً أكبر مع النخب الحاكمة في المنطقة كما كان عليه الحال حتى الآن. " إذا لم ينجح الأميركيون والغربيون في تغيير مقاربتهم الإستراتيجية للمنطقة فلن تكون النتيجة تحقيق مصالحهم الحيوية، ولا تأمين إسرائيل المتفوقة عسكريا بشكل أفضل، ولا توافقاً أكبر مع النخب الحاكمة في المنطقة كما كان عليه الحال حتى الآن " وإنما مضاعفة الخسائر الراهنة والاختلالات، وتعظيم الفواتير التي ينبغي دفعها في المستقبل، والمغامرة بدفع المنطقة نحو مزيد من التفكك والفوضى والدمار، ما ينعكس سلبا على مصالح الغرب وإسرائيل والعالم بأكمله أيضا. ومنذ الآن أصبحت الفوضى المعممة أو شبه المعممة الهاجس الأكبر للدول الكبرى والصغرى على حد سواء، وحولت منطقة الشرق الأوسط برمتها إلى بؤرة للتهديدات والمخاطر التي تؤرق ليل جميع الأطراف. وإذا لم يحصل ما يغير قواعد التعامل مع الآخرين فلن تكون النتيجة سوى مزيد من التدهور في جميع الميادين، مع تفسخ جارف وفتح المنطقة على أسوأ الاحتمالات. السؤال: ألا يمكن أن يكون في الشرق الأوسط بديل عن سياسة "عليّ وعلى أعدائي" وبناء إستراتيجية تضمن مصالح جميع القوى وتعززها؟ يستدعي هذا بداية أن تدرك القوى الغربية استحالة إعادة بناء إستراتيجيتها القديمة المنهارة على الأسس نفسها التي قامت عليها منذ الحرب العالمية الثانية. وهو ما يتطلب تحديدا جديدا للأهداف والوسائل والمقاربات يمكن واشنطن والغرب عامة من المساهمة الايجابية في حل مشاكل المنطقة والمشاركة في إصلاح شؤونها، بحيث تشعر الشعوب العربية أن هناك مصالح مشتركة ممكنة بالفعل. كما يستدعي أن تعترف شعوب المنطقة بالمصالح الإستراتيجية المرتبطة بإنتاج الطاقة وتضمن تدفق النفط بشكل طبيعي ضمن اتفاق شراكة إستراتيجية تشكل التنمية أحد بنودها الرئيسية، إلى جانب إيجاد تسوية عادلة للمسألة الفلسطينية وإنهاء الاحتلالات وأشكال التمييز والاستيطان بأكملها. وإذا لم ينجح الغرب في وضع أهداف جديدة لسياسته تساعد في إحلال السلام بالمنطقة وفتحها على الاستثمار الاقتصادي والثقافي، ودعم مشاركة الشعوب في تقرير مصيرها ضد النخب المافوية الحاكمة، وضمان الأمن والاستقرار للشعوب جميعا، لن يكون من الممكن إخراج المنطقة من الأزمة الطاحنة التي تعيشها والتي ستضرب نتائجها -بشكل أكبر في المستقبل- النظام الدولي نفسه. ولابد من أجل التوصل إلى هذا الهدف من توفير إطار مبادرة دولية وإقليمية مشتركة، تطرح أجندة لمواجهة الملفات الأربعة الرئيسية التي تشكل أركان الأزمة: 1- ملف الاحتلالات والنزاعات المتفجرة بين الدول والشعوب. 2- ملف الأمن الإقليمي وأمن كل شعب من شعوب المنطقة. 3- التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية. 4- الديمقراطية والمشاركة الشعبية. ولا أمل لنجاح مثل هذه المبادرة إن لم تقم من الأساس على نظرة شمولية ومقاربات متزامنة أيضا، وبمشاركة الأطراف الدولية والإقليمية والوطنية -الرسمية والمدنية- بشكل يفرض على كل طرف أن يتحمل مسؤولياته، ويتيح له أن يدرك أيضا دوره ويتعرف على المساهمات المطلوبة منه والقادر على تقديمها، في إطار دعم المجهود الجماعي لإخراج المنطقة من الهوة التي سقطت فيها، وتجنيبها الانحدار نحو البربرية. " لا أمل بنجاح أي مبادرة لحل أزمات المنطقة إن لم تقم من الأساس على نظرة شمولية ومقاربات متزامنة أيضا، وبمشاركة الأطراف الدولية والإقليمية والوطنية الرسمية والمدنية، بشكل يفرض على كل طرف أن يتحمل مسؤولياته " هذا يعني أنه لا يوجد حل لأي مشكلة بعزلها عن المشكلة الأخرى، كما لا يوجد أي حل من خلال احتكار أي دولة أو طرف -مهما كانت عظمته وقوته- للمبادرة السياسية. يرتكز هذا الترابط على عوامل أساسية: أولا- أنه لم يعد من الممكن تحقيق الأمن والاستقرار بالتركيز على المصالح الغربية وحدها، فلن يقوم استقرار لا يأخذ بالاعتبار سوى مصالح ضمان تدفق النفط، أو أمن إسرائيل، أو منع مشاركة الدول الأخرى في المصالح الإقليمية. كما لم يعد من الممكن بناء التحالفات على شراء النخب، أو المراهنة على علاقات النفوذ والتبعية التقليدية. ينبغي بالعكس الاعتراف الرسمي والعملي بالمصالح الوطنية للشعوب، الاقتصادية منها والسياسية والثقافية والأمنية، وإظهار الاحترام لها، وتمييزها عن مصالح الأنظمة الحاكمة والنخب المستلبة أو المستتبعة. ثانيا- لم يعد من الممكن ضمان الأمن والاستقرار من الخارج وبواسطة التدخلات العسكرية، وهو ما يستدعي اعترافا واضحا باستقلالية الشعوب ودورها في تحقيق أمنها وبلورة أغراضه ووسائله، من خلال تنظيماتها الإقليمية وتبعا لمصالحها بشكل رئيسي، لا تلبية لأهداف إستراتيجية دولية أو لأمن أي قوة عالمية. كما يستدعي التفاهم بين الدول الغربية والدول الآسيوية والروسية الكبرى وتجنيب المنطقة حربا باردة جديدة. ثالثا- لم يعد من الممكن ضمان التنمية الاقتصادية والاجتماعية لشعوب المنطقة في إطار التقسيم الراهن للأسواق والاستثمارات والتكيف مع الجغرافية السياسية الموروثة عن الحقبة الاستعمارية. وهذا ما يستدعي -بعكس ما حصل حتى الآن- التشجيع على الاندماج الإقليمي، وتقديم المساعدات اللازمة لتحقيقه وتوسيع دائرة تطبيقه. رابعا- لم يعد من الممكن تحقيق نتائج سياسية أو إستراتيجية لأي طرف كان -داخليا أو خارجيا- عن طريق العنف واستخدام القوة والابتزاز فحسب، ولا بد من إدخال منطق الحوار والمفاوضات المتعددة الأطراف إلى المنطقة التي حرمت منها لعقود طويلة. كما لا بد من مقاومة نزعة الانفراد بالقرار الإقليمي، وتعزيز هامش مبادرة الإقليم عموما تجاه الخارج. فليس من الممكن التوصل إلى حلول ناجعة لمشكلات المنطقة وأزماتها إلا بالمراهنة على تعاون شعوبها وسكانها، وتغيير المناخ السلبي السائد، وفتح حقبة جديدة من السلام والوفاق تستفيد منها الأطراف كافة. ومثل هذه المقاربة الشاملة لشؤون المنطقة لا يمكن تحقيقها من دون القبول بتقديم تنازلات أساسية من قبل جميع الأطراف، وفي المقدمة إسرائيل. فلا يمكن لإسرائيل أن تطمح إلى الحصول على السلام في مواجهة كل بلدان المنطقة مع احتفاظها بمكاسبها التي حققتها بالقوة خلال العقود الخمس الماضية. وإذا كانت الولاياتالمتحدة تريد أن تستعيد جزءا من صدقيتها وقدرتها على المبادرة فينبغي أن تركز جهودها على إقناع إسرائيل وقادتها ورأيها العام بأن الخطوة الأولى لإطلاق مسيرة السلام والاستقرار والأمن الشامل والنمو والازدهار في المنطقة، تبدأ بالتفاوض على إنهاء الاحتلالات القائمة، وتفكيك المستوطنات، ووضع حد للسياسات الاستعمارية. من دون ذلك ليس هناك أي أمل في التقدم ولو جزئيا على أي مسار من المسارات الأخرى. " كي تستعيد أميركا صدقيتها ينبغي أن تركز جهودها على إقناع إسرائيل وقادتها بأن الخطوة الأولى لإطلاق مسيرة السلام والاستقرار والأمن الشامل، تبدأ بالتفاوض على إنهاء الاحتلالات القائمة، وتفكيك المستوطنات، ووضع حد للسياسات الاستعمارية " يمكن للولايات المتحدة أن تضرب إيران وتدمر منشآتها النووية والعسكرية والاقتصادية، لكنها لن تستطيع بعد ذلك أن تمنع الشباب الإسلامي المحبط والفاقد للأمل من الانخراط في حركات الإرهاب الدولية، تماما كما أن كثيرا من الشباب العربي الذي يئس من أن تتحول بلاده إلى شريك في هذا النظام انقلب عليه وجعل من تدمير النظام العالمي هدفه الانتقامي. باختصار.. لا يوجد هناك حل أميركي -أي لا يأخذ بالاعتبار إلا صالح أميركا- لقضايا المنطقة، بل لا يوجد هناك حل لصالح دولة بعينها أو فريق معين، ولا حل يتجاهل مصالح الشعوب لصالح النخب أو العكس. كما لا يوجد هناك حل لمشكلة على حساب مشكلة أخرى، فالتنمية لا تغني عن الأمن، والأمن لا يغني عن استعادة الأراضي المحتلة، والتنمية ليست بديلا عن المشاركة الشعبية. وستخفق كل محاولة لإيجاد حلول تسعى إلى مقايضة حل مشكلة بمشكلة أخرى، أو لا تأخذ بالاعتبار مصالح جميع الأطراف الكبيرة والصغيرة معا، داخل الدول وخارجها. ويكفي للتدليل على ذلك النظر إلى مؤتمر أنابوليس الذي يكاد يعلن إفلاسه قبل أن يبدأ.