توطئة : نواصل الحديث في هذه الحلقة الثانية من الكتاب القيم "أولادنا من الطفولة إلى الشباب" للدكتور مأمون مبيض، وكما قلت سابقا، فبعد قراءة أولية أحسست بقيمة الكتاب ومدى حاجة الأسرة المسلمة لتبنيه كمنهج لتربية أبنائها. وفرادة الكتاب والإضافة النوعية التي يحتويها تجدان أساسها بداية في تخصص الدكتور في الأمراض النفسية عند الأطفال والمراهقين في مستشفى الملكة فكتوريا في بلفاست بأيرلندا، وثانيا في مدى إلمامه وعلمه وخبرته بموضوع حساس وخطير غفل عنه أصحاب الاختصاص من أهلنا وحسبوه من مشمولات الوعاظ والمرشدين. وثالثا للمنهج العلمي والطريقة العصرية والمشوقة التي استعملها الدكتور والتي ضاعفت أهمية الكتاب وضرورة الإطلاع عليه. المحطة الأولى : تحديد الأدوار داخل الأسرة 1 / حسِّن جوك العائلي تحسُن طينة ولدك، فالمناخ السعيد المليئ بالبشر والمرح والمشاعر الصادقة المتبادلة يؤدي إلى إنبات طيب وآمن. (والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا)[الأعراف 58] ” والولد الذي ينمو في مثل هذه البيئة ستكون عنده مشاعر عميقة بالأمن والأمان. فأمامه القدوة الحسنة، وكيفية التعامل مع الآخرين، وهو يعرف أيضا أن المنزل مكان آمن في هذه الحياة ” [ص22] وللعلاقة بين الوالدين إذا دور أساسي في تنزيل هذه الرؤى وإنجاح هذه الرعاية وكلما حسنت هذه العلاقة، والتي تمثل السكينة هدفها السامي، كلما لمست تأثيره في هذه البيئة الصغيرة ورأيت الطمأنينة والسكينة تتجاوز إطار الزوجين لتصبح هدفا أسريا ثم مجتمعاتيا (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها) [الروم 21]. أما المناخ المشحون بالصياح والخلاف والغضب والبكاء والآلام ” فيجعل الطفل تتوزعه المخاوف والاضطرابات، ويتشتت ذهنه، فهو من جهة يحب أبويه معا إلاّ أنه يحتار مع أي طرف يقف، وقد تنتابه مخاوف إمكانية افتراقهما وتحطم الأسرة. ويصعب على الطفل أن يستمتع بأي نشاط أو مناسبة أسرية، وبالتالي تصبح أوقات الطعام والرحلات والأنشطة الاجتماعية أوقاتا للخصام والنزاع أو الغضب والامتناع عن الكلام.[ص22] 2 / لا تحشر ولدك وهو في صغر سنه في النزاعات الأسرية، فكثيرا ما يلجأ الطرفان تعزيزا لمواقفهما إلى مثل هذا التصرف، وخاصة من جانب الأم التي تجد في هذا العمل تنفيسا لها من حالة ظلم تطالها من زوجها. غير أن سلبيته تظهر في ظلم الولد الذي يُطلب منه تحديد موقف من أبيه وأمه، وهو الذي يعتبرهما المرجع والنموذج، وهما الذان تربطه بهما علاقة حب وعاطفة وولاء، يغيب العقل ويعجز عن تقييمها. 3 / تعتبر السنوات الأولى للطفل محطات لقاء وإثارة واستكشاف بينه وبين عالمه الصغير، وعلى الوالدين مرافقته في هذا المسار السريع ” فهو مثلا يكتشف من جديد أن الشمس لها دفئ وحرارة، ويتعرف على اللون الأصفر والأحمر والأخضر، ويدهش لرؤية القطة والعصفور. وحتى المشوار القصير إلى السوق يصبح عنده مغامرة كبيرة مليئة بالمشوقات. وهكذا فكل شيء له عنده جدّة بعكسنا نحن الكبار الذين فقدنا المشاعر والحساسية” [ص22] إن نجاح هذه المغامرة الطبيعية لطفلك من كائن لاحول له ولا قوة إلى مساهم متدرج في حياة الأسرة ثم في دروب المجتمع، يتطلب تفاعلا ذكيا ورفقا وصبرا وجوا أسريا سعيدا ومبتهجا ” صحيح أن هناك عقبات وصعوبات، وصحيح أن هناك لحظات عصيبة قد يتمنى فيها الأهل أن ليس لهم ولد، إلاّ أن نعمة متابعته وبنائه وتكوينه وتحويله من مخلوق محدود إلى آفاق واسعة رحبة، تبقى نعمة عظيمة لا تُقدّر بثمن في هذه الحياة.” [ص23] إن هذه النعمة تؤكد جانب المتعة التي جعلها الله في هذه الدنيا الخظرة والنظرة والتي يتقاسمها الولد مع أبويه إذا كان الإطار سليما ومعافى (زُيّنَ للنَّاس حُبُّ الشَّهذوَات مِنَ النِّسَاءِ والبَنِين …) [آل عمران 14]. 4 / إن دورك كأب لا يمحي عنك رعاية رضيعك أو طفلك الصغير، فكثيرا ما توكل هذه المهمة إلى المرأة بدعوى أنها جُبلت على ذلك ويستقيل الأب متعللا بتعبه طيلة النهار وهو ينسى أنها هي أيضا قد عملت طول النهار في رعاية أطفالها. إن مسؤولية التربية تُلقى بالتساوي على الطرفين وأن أي تراخ أو استقالة من أحد هما لن يؤدي إلا إلى ضعف في الرعاية وعدم توازن بين العطف والمرونة التي تمثلهما الأم غالبا، والحزم و عدم التسيب التي يلعب دورهما الأب. ” والشيء الطبيعي في الأشهر الأولى من حياة الطفل أن يعمل الزوجان معا على تكوين أسرة محبة ومقدرة لمشاعر كل أفرادها واحتياجاتهم. ويحتاج كل من الأب والأم أن يشعر بمحبة الطرف الآخر، وكلاهما يحتاج للشعور بأن لكل منهما دوره ورأيه في رعاية الولد وحياة الأسرة كشريكين متكافئين متكاملين” [ص40]. قال أحد الصالحين وهو مع إخوانه في إحدى الغزوات ” أتعلمون عملا أفضل ممّا نحن فيه؟ ” قالوا : ما نعلم! قال ” رجل متعفف على فقره، ذو عائلة قد قام من الليل فنظر إلى صبيانه نياما متكشفين فسترهم وغطّاهم بثوبه، فعمله أفضل ممّا نحن فيه”. 5 / إن شغفك بمولودك لا يجب أن ينسيك زوجتك ويقلل انتباهك لها، فهي حبك الأول، ولعله الأخير، وما الأولاد إلا ثمرة مباركة لهذا الحب والسكينة التي جمعتكما. إن المرأة التي تلقى انتباها ورعاية وتثمينا لعملها طول النهار في تربية أولادها تشعر بقربها لزوجها ودفء علاقته بها وتقديره لدورها التربوي ورعايتها المتواصلة و ” تصبح أكثر سعادة وبهجة في الحياة، ولا يتطلب هذا الأمر الكثير من قبل الأب، ويكفي مثلا أن يبادر الأب عند عودته من عمله أن يُظهر اهتماما بالأم وبولدها وبما جرى معها أثناء النهار من أحداث. وإذا كان الطفل نائما في سريره فيمكن للأب عند عودته أن يذهب لغرفة ولده ليطمئن عليه، وإذا رآه مستيقظا أن يأتي به ليجلس مع أبويه. وأن يساعد الأم في إطعام الطفل إذا حان وقت طعامه، وكذلك أن يأخذ دوره في رعايته إذا ماشكى من ألم أو استيقظ أثناء الليل” [ص39]. يُروى أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب يشكو إليه زوجته، فلما بلغ بابه سمع امرأته أم كلثوم تطاولت عليه، فقال الرجل: إني أردت أن أشكو إليه زوجتي، وبه من البلوى مثل ما بي، فرجع فدعاه عمر رضي الله عنه، فسأله فقال: إني أردت أن أشكو إليك زوجتي فلما سمعت من زوجتك ما سمعت رجعت. فقال عمر: إني أتجاوز عنها لحقوق لها عليّ : أولها هي ستر بيني وبين النار فيسكن بها قلبي عن الحرام. والثاني أنها خازنة لي إذا خرجت من منزلي وتكون حافظة لمالي. والثالث أنها قصارة لي تغسل ثيابي. والرابع أنها ظئر لولدي. والخامس أنها خبازة وطباخة. فقال الرجل: إن لي مثل ما لك فما تجاوزت عنها فأتجاوز. 6 / وكذلك بالنسبة للأم، فإن رعايتك لأولادك واهتمامك اليومي برعايتهم وخوفك وهاجسك المتزايد حول مستقبلهم، لا يجب أن ينسيك زوجك ومكانته الأولى في قلبك ” فقد يشعر الأب ببعض الغيرة مما يتلقاه الطفل من رعاية زوجته, ولذلك على الزوجة أن تنتبه لهذا فتعطي زوجها الانتباه المطلوب كالترحيب به فور وصوله إلى المنزل، وإعطائه وقتا للحديث فيما يهمه من أمور وقضايا. وعليها كذلك أن لا تقوم بإبعاد الزوج عن ولده بحجة أن الرجال لا يقدرون على رعاية الأطفال وتقديم الخدمات لهم، وكأن الرجل لا يؤتمن على الطفل الصغير” [ص40]. قال صلى الله عليه وسلم : خير النساء التي إذا نظرت إليها سرّتك..! يتبع 15 جويلية 2008 المصدر بريد الفجرنيوز