بعد أن ذاقت أمريكا طعم المذلّة والهوان في العراق وخيّمت سُحُب اليأس والانكسارعلى قطعات جيشها العرمرم, وفقدت معظم الخيارات,التي كانت حتى وقت قريب مفضّلة لديها, في التعامل مع ملفات المنطقة, وعل الأخص الملف الا يراني. عمدت الى تخويل وكلائها وحلفائها, فرنسا وتركيا مثلا, ومنحتهم كامل الحرية في التصرّف والتحرّك لحسابها الخاص وعلى أكثرمن جبهة. وليس صدفة إن المنطقة العربية وما جاورها تشهد هذه الأيام نشاطا وحراكا محموما بين اللاعبين الاساسيين. ولا يمكن أن يجري كلّ هذا بمعزل عن الأخ الأمريكي الأكبر,أو على الأقل بدون مباركته وتشجيعه. وهكذا, فقد ظهرت الى العلن, بعد أن كانت من الأسرارالممنوعة, المفاوضات الغيرمباشرة بين سوريا وإسرائيل عبرتركيا, حليف أمريكا الأمين. وفي المؤتمرالذي عقد مؤخرا في باريس تحت إسم"إتحاد من أجل المتوسط" إنفرد الرئيس الفرنسي ساركوزي بالرئيس السوري بشارالأسد كما لو كان صديق طفولته, وصنع منه نجما بلا منازع, يتلألأ في سماء باريس بينما أكل الحسد والغيرة قلوب بقية الرؤساء الأخرين, وأولهم فرعون مصر حسني مبارك. ثم تلت ذلك, وفي نفس الفترة الزمنيّة, تحركات وتنقلات مكوكية لوكلاء وعملاء من درجات متدنّية. فحصل على سبيل المثال التالي: صفقة تبادل أسرى بين حزب الله اللبناني وإسرائيل, دولة الامارات تشطب ديونها على العراق وتعيّن سفيرا لها في بغداد, أو الأصح في المنطقة الخضراء, زيارة غامضة الأهداف والنوايا والتوقيت قام بها النائب اللبناني المليارديرالشيخ سعد الحريري الى بغداد, ومن ثم الى مدينة النجف الأشرف ليلتقي بالرجل اللامرئي, آية الله على السيستاني, ويتباحث معه في شؤون لا علاقة لها بكلّ تأكيد لا بالأديان ولا بالأوطان. ولكن الحدث الأهم في كل ما سبق هو إن الكويت تكرّمت علينا وعيّنت لها سفيرا في بغداد, وهو أيضا سيحلّ ضيفا على المنطقة الخضراء. وبرأيي يجب أن يكون يوم وصول السفير الكويتي الى العراق يوم عطلة رسميا في جميع أنحاء القطر, بما فيه إمارة مسعود البرزاني في شمال العراق. وأن تُقام إحتفالات رسمية وشعبية تتخللها الأفراح والأمراح وقرع الأقداح والرقصات الشعبية بمختلف أنواعها, بما فيها رقصة"الهيوة" الشهيرة, وأن ترفع الأعلام الكويتية فوق أسطح جميع البيوت بما فيها تلك التي دمرّتها على ساكنيها الأبرياء قوات"التحرير" الأمريكية والميليشيات التابعة للحكومة العميلة في بغداد,.وليس فقط على أسطح المنطقة الخضراء كما جرت العادة السيئة. ولماذا أيها العماري؟ سيسألني أحدكم. لماذا يا اخوان؟ يجب أن تعرفوا إنه لأول مرّة في تاريخنا الحديث تعترف بنا دولة عظمى كالكويت. وترسل لنا سفيرها بلا قيد أو شرط. بل إن طيبة حكّام الكويت ورقّة مشاعرهم أزاء الشعب العراقي جعلتهم يرسلون, تصوّروا يا ناس, رئيس أركان متقاعد وليس دبلوماسي! لكن إخوتنا في إمارة آكلي المرار )سابقا طبعا( لم يوضّحوا لنا بعد إن سفيرالكويت القادم كان رئيس أركان أيه؟ ملاهي أو مواخيرأو فنادق من الدرجة الممتازة, أو إن فخامته كان, وهذا هو الأصح باعتقادي, رئيس أركان في المخابرات المركزية الأمريكية أو الاسرائيلية. قلنا في البداية إن أمريكا فقدت, لضراوة وبطولة وصمود الشعب العراقي ومقاومته الباسلة, جميع الخيارات. لكنها ولأسباب داخلية, كالانتخابات والوضع الاقتصادي وغيرها, ما زالت تعيش حالة الانكار وترفض الاعتراف بالحقيقة المرة. ولهذا السبب ضاعفت الأونة الأخيرة من جرعات الغزل الموجّة الى جارة السوء إيران. وإرتفع من الطرف الايراني منسوب الشوق والحنين الى لقاء الشيطان الأكبر, خصوصا وأن الرئيس الايراني أحمدي نجاد صرّح قبل أيام قائلا إن لا مانع لدى بلاده من فتح مكتب في طهران لرعاية المصالح الأمريكية. وبالمقايل, سارعت وزارة الحارجية الأمريكية بارسال السيد وليام بيرنز, وهو ثالث مسؤول في الوزارة في خدمة كونداليزا العزيرة, الى جنيف للقاء رئيس الوفد الايراني المفاوض عن الملف النووي سعيد جليلي. وعلّلت أمريكا هذه الخطوة قائلة إن السيد وليام بيرنز ذهب للاستماع فقط وليس للتفاوض مع الايرانيين. وهل يوجد مجنون واحد في هذا العالم يصدّق بعد اليوم ما تقوله أمريكا؟ خصوصا وإنها تبحث عن أية قشّة, ولو كانت خيط من عمامة فارسية, لتنقذ نفسها من الغرق المحتوم في بحرالعراق المتلاطم الأمواج. إن الكثير من الأسئلة تُثارحول ما يُوصف بالتحوّل المفاجيء في سياسة الأبله جورج بوش حيال إيران. وماهي يا ترىالنتازلات, رغم أنها ستبقى بعيدة عن أنظارالفضوليين,التي أتفق الطرفان على تقديمها لبعضهما البعض؟ وبما إن أمريكا وإيران تشتركان, كل حسب دوره وإمكانياته ووسائله ورجاله, في إحتلال العراق والتحكّم في كلّ شؤونه. فمن المؤكد إن الطرفين, الأمريكي والايراني, ونظرا لتشابه وإلتقاء المصالح, سوف يجعلان من العراق الموضوع الرئيسي في الصفقة المريبة التي يحضران لها, والتي سوف تتم بلا أدنى شك على حساب العراق ومصالح شعبه. ولكن أمريكا ومعها إيران, لم تأخذا بالحسبان, لجهل أو لقصرنظرأو لسذاجة, موقف ودور الشعب العراقي, ومعه مقاومته المسلّحة الباسلة, الرافض لكل إحتلال سواء كان أمريكي أو فارسي أو صهيوني. وليس ببعيد ذلك اليوم الذي ستجد فيه واشنطنوطهران نفسيهما مضطرّتين للبحث عن مكان آخر,غيرالعراق العربيّ الصامد, لعقد زواج مُتعة بينهما. المصدر بريد الفجرنيوز