غوغل تسرح 28 موظفا احتجّوا على عقد مع الكيان الصهيوني    حراك 25 جويلية يناشد رئيس الجمهورية الترشح للانتخابات الرئاسية القادمة    عاجل/ بعد منع عائلات الموقوفين من الوصول الى المرناقية: دليلة مصدق تفجرها..    برج السدرية: انزلاق حافلة تقل سياحا من جنسيات مختلفة    في اجتماعات الربيع: وزيرة الاقتصاد تواصل سلسلة لقاءاتها مع خبراء ومسؤولي مؤسسات تمويل دولية    اليوم: انعقاد الجلسة العامة الافتتاحية للمجلس الوطني للجهات والأقاليم    وزير السياحة يلتقي رئيس الغرفة الوطنية للنقل السياحي    طيران الإمارات تعلق إنجاز إجراءات السفر للرحلات عبر دبي..    بعد فيضانات الإمارات وعُمان.. خبيرة أرصاد تكشف سراً خطيراً لم يحدث منذ 75 عاما    عاجل/ زلزال بقوة 5.6 درجات يضرب هذه الولاية التركية..    الوكالة الفنية للنقل البري تصدر هذا البلاغ    التوقعات الجوية لهذا اليوم..سحب كثيفة مع الأمطار..    عاجل : هجوم إسرائيلي على أهداف في العمق الإيراني    فرنسا: إصابة فتاتين في عملية طعن أمام مدرسة شرقي البلاد    الأندية المتأهلة إلى نصف نهائي الدوري الأوروبي    سلطنة عمان: ارتفاع عدد الوفيات جراء الطقس السيء إلى 21 حالة    اللجان الدائمة بالبرلمان العربي تناقش جملة من المواضيع تحضيرا للجلسة العامة الثالثة للبرلمان    منبر الجمعة .. الطفولة في الإسلام    خطبة الجمعة..الإسلام دين الرحمة والسماحة.. خيركم خيركم لأهله !    اسألوني .. يجيب عنها الأستاذ الشيخ: أحمد الغربي    خلال الثلاثي الأول من 2024 .. ارتفاع عدد المشاريع الاستثمارية المصرّح بها    جوهر لعذار يؤكدّ : النادي الصفاقسي يستأنف قرار الرابطة بخصوص الويكلو    تم جلبها من الموقع الأثري بسبيطلة: عرض قطع أثرية لأول مرّة في متحف الجهة    ضروري ان نكسر حلقة العنف والكره…الفة يوسف    ارتفاع عائدات صادرات زيت الزيتون بنسبة 82.7 بالمائة    عاجل/ هيئة الدفاع عن الموقوفين السياسيين: اللّيلة تنقضي مدّة الإيقاف التحفّظي    عاجل/ بعد "أمير كتيبة أجناد الخلافة": القبض على إرهابي ثاني بجبال القصرين    وزير الصحة يشدّد على ضرورة التسريع في تركيز الوكالة الوطنية للصحة العموميّة    سوسة: الاستعداد لتنظيم الدورة 61 لمهرجان استعراض أوسو    أنس جابر خارج دورة شتوتغارت للتنس    طبربة: إيقاف 3 أشخاص يشتبه في ترويجهم لمواد مخدرة في صفوف الشباب والتلاميذ    تخصيص حافلة لتأمين النقل إلى معرض الكتاب: توقيت السفرات والتعريفة    سيدي بوزيد.. تتويج اعدادية المزونة في الملتقى الجهوي للمسرح    توزر.. افتتاح الاحتفال الجهوي لشهر التراث بدار الثقافة حامة الجريد    محمود قصيعة لإدارة مباراة الكأس بين النادي الصفاقسي ومستقبل المرسى    كأس تونس لكرة القدم: تعيينات حكام مقابلات الدور السادس عشر    بعد حلقة "الوحش بروماكس": مختار التليلي يواجه القضاء    حملات توعوية بالمؤسسات التربوية حول الاقتصاد في الماء    جلسة عمل مع وفد من البنك الإفريقي    شاهدت رئيس الجمهورية…يضحك    انخفاض متوسط في هطول الأمطار في تونس بنسبة 20 بالمئة في هذه الفترة    حيرة الاصحاب من دعوات معرض الكتاب    أبطال أوروبا: تعيينات مواجهات الدور نصف النهائي    عاجل/ تلميذ يطعن أستاذه من خلف أثناء الدرس..    بوركينا فاسو تطرد 3 دبلوماسيين فرنسيين لهذه الأسباب    عاجل : نفاد تذاكر مباراة الترجي وماميلودي صانداونز    هام/ تطوّرات حالة الطقس خلال الأيام القادمة..#خبر_عاجل    ضربة إسرائيل الانتقامية لايران لن تتم قبل هذا الموعد..    الحماية المدنية: 9 حالات وفاة خلال ال24 ساعة الأخيرة    غادة عبد الرازق: شقيقي كان سببا في وفاة والدي    البنك المركزي : ضرورة مراجعة آليات التمويل المتاحة لدعم البلدان التي تتعرض لصعوبات اقتصادية    مصر: رياح الخماسين تجتاح البلاد محملة بالذباب الصحراوي..    وزير الصحة يشدد في لقائه بمدير الوكالة المصرية للدواء على ضرورة العمل المشترك من أجل إنشاء مخابر لصناعة المواد الأولية    توزر: المؤسسات الاستشفائية بالجهة تسجّل حالات إسهال معوي فيروسي خلال الفترة الأخيرة (المدير الجهوي للصحة)    الكاف: تلقيح اكثر من 80 بالمائة من الأبقار و25 بالمائة من المجترات ضد الأمراض المعدية (دائرة الإنتاج الحيواني)    "سينما تدور": اطلاق أول تجربة للسينما المتجولة في تونس    جراحة فريدة في الأردن.. فتحوا رأسه وهو يهاتف عائلته    موعد أول أيام عيد الاضحى فلكيا..#خبر_عاجل    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



البدايات الأولي للفكر العربي الإسلامي
نشر في الفجر نيوز يوم 17 - 08 - 2008

الموالي لعبوا دوراً متزايداً في الحضارة العربية الإسلامية
البلورة الأولي للعقيدة والحضارة العربية الإسلامية لم تتم في ظروف سلمية أو هادئة أو وردية
علي كل مؤرخ محترف يحترم نفسه ألا يتحزب بشكل مسبق لأقوال ممثلي السلطة من الفقهاء والمؤرخين ولا لممثلي المعارضة
نعترف للسلطات الأموية أنها بينما كانت تواجه المعارضة بقوة السلاح أو بالحرب الكلامية فإنها راحت تشكل إدارة مركزية فعالة للدولة
الفقه بالمعني الفعلي للكلمة لم يتشكل خلال القرن الأول للهجرة إنما في القرنين الثاني والثالث
مفهوم المذهب في الإسلام لم يبتديء بفرض نفسه إلا في منتصف القرن الثاني الهجري
العرب شعروا بالحاجة إلي تجميع أكبر قدر ممكن من المعارف لمساعدتهم في فهم النص القرآني بشكل أفضل وتفسيره واستنباط الشرائع والأحكام منه

يستخدم اركون ثلاثة مصطلحات للدلالة علي الآليات العقلية والاجتماعية التي تحكمت بتطور الامة بين عامي 632 - 850 هذه الامة التي كانت قد أسستها تعاليم النبي وأعماله.
هذه المصطلحات هي: النزعة البراغماتية أو الذرائعية العملية، ثم الاجتهاد، ثم التثاقف مع التراثات الأخري من فارسية قديمة أو هندية أو بالاخص يونانية. كانت الأمة في البداية لا تزال هشة وفي ذات الوقت صاعدة قوية لا يمكن تدميرها. فهي تستمد قوة وجودها من ارادة الله والايمان به ولكن كان ينبغي عليها ايضا ان تعتمد علي عزائم اعضائها من اجل انجاز مهمتها أو رسالتها.
ثم يردف اركون قائلا بما معناه: في البداية كان المؤمنون هم عبارة عن عرب فقط. ولم يكونوا قد تجاوزوا بعد عصبياتهم القبلية الرازحة التي لا تقل صلابة ورزوحا عن جفاف الصحراء اللامتناهية. ثم حصلت الفتوحات بشكل مبكر جدا وكللت بالنجاح بشكل هائل يفوق كل التصورات. وعندئذ راح الإسلام المرتبط بالعروبة اولا يمتد بانتشاره لكي يشمل بلادا جديدة ذات حضارات قديمة وعريقة كمنطقة سوريا- فلسطين، والعراق، وايران. وعندئذ دخل ابناء الشعوب المفتوحة في دين الله افواجا وشكلوا ما دعي آنذاك بطبقة الموالي.
وبما ان هؤلاء كانوا ينتسبون إلي حضارات أعرق وتراثات ثقافية ومؤسساتية أقدم من حضارة العرب في الصحراء فانهم راحوا يلعبون دورا متزايدا في هذه الحضارة الإسلامية الآخذة بالتشكل والتبلور.
ولكن هذه البلورة الاولي للعقيدة والحضارة العربية الإسلامية لم تتم في ظروف سلمية أو هادئة أو وردية. وانما تمت في اجواء مضطربة هائجة وفي صراع محموم ودموي علي الخلافة والسلطة. فثلاثة من الخلفاء الراشدين لم يموتوا بشكل طبيعي وانما قضوا قتلا: عمر، عثمان، علي. وهذا اكبر دليل علي حجم الخلافات السائدة آنذاك. كما انه دليل علي ان الوعي الجماعي الإسلامي كان في حالة بحث عن توازن جديد.
وقد تعقد هذا التنافس بين الفئات المختلفة بعد دخول أبناء الشعوب المفتوحة علي الخط. ثم تركز الصراع علي المشكلة السياسية- اللاهوتية الكبري: أي مشكلة الامامة أو الخلافة. من هو الأحق بها؟ علي هذا السؤال سالت الدماء أنهارا.. وهنا يمكن للمؤرخ وعالم الاجتماع ان يتوقف طويلا عند الاسباب العرقية اوالقبلية والاقتصادية والتاريخية التي دفعت بأغلبية من الانصار إلي تشكيل معارضة لخلافة ابي بكر.
ولكن الشيء الذي يلفت الانتباه هنا هو ان البواعث العميقة التي دفعت بحزب الشيعة الذي تشكل آنذاك والذي عارض هذه الخلافة ايضا قد عبرت عن نفسها عن طريق معجم لغوي ديني ومحاجات دينية صرفة وليست قبلية أو اقتصادية أو عشائرية.. فمعظم القرارات التي اتخذها الخلفاء الثلاثة الاوائل، أي ابو بكر وعمر وعثمان، نوقشت أو انتقدت أو رفضت من قبل حزب الشيعة، أي شيعة علي أو انصار علي، باسم سنة النبي بالذات.
وهذا يعني ان الاعتراض كان دينيا محضا وان حزب علي كان يعتبر ان هؤلاء الخلفاء انحرفوا عن نهج النبي المؤسس: أي محمد. من هنا خطورة الصراع بين السنة والشيعة، وهو صراع اخترق القرون ولا يزال متفجرا حتي هذه اللحظة. وخطورته عائدة إلي انه لاهوتي عقائدي وليس اقتصاديا أو حتي سياسيا والا لهان الامر. ومعلوم ان اخطر انواع الصراعات في التاريخ هو الصراع العقائدي الديني.
ثم يردف اركون قائلا: ويري المستشرق جوزيف شاخت الذي ركز دراساته علي الإسلام الاولي ان مصطلح سنة النبي لم يكن يدل علي المبادرات والاقوال الشخصية التي يتخذها أو يلفظها النبي والتي جمعت في كتب الحديث وانما علي طريقته المعتادة في الاحالة إلي القرآن. وفي مثل هذه الحالة فان تثبيت كلام الله كتابة شكل صدمة عنيفة لبعض المؤمنين الاوائل المرتبطين بعمق برسالة محمد. لماذا؟ لانهم وجدوا ان هذا الجمع ينحرف عما سمعوه من محمد بخصوص نص القرآن أو بعض الآيات والسور أو علي الاقل بعض المقاطع.
وبالتالي فقد شعروا بان هذا الجمع الرسمي شكل نيلا لا مرجوع عنه من الحقيقة الخالدة لكلام الله. لهذا السبب فان الصراعات السياسية التي اندلعت بين المسلمين الاوائل حول تشكيل النسخة الرسمية للمصحف في عهد عثمان وما تلاه لا ينبغي ان تنسينا الخلافات الدينية التي سببها نفس الحدث. فالمسألة لم تكن سياسية فقط وانما كانت دينية وبالدرجة الاولي.
واكبر دليل علي ذلك ما حصل للصحابي ابن مسعود الذي كان متألما جدا مما حصل لمصحفه. ولكن السلطة فرضت نسختها الرسمية علي الجميع وحرقت كل النسخ الأخري كما هو معروف. ونلاحظ ان المماحكات الجدالية التي ولدها هذا الحدث سرعان ما هيمنت عليها الاعتبارات التحزبية للسلطة القائمة.
ولذا فان مؤرخ الافكار الذي يهمل ربط الوقائع المثبتة بواسطة الوثائق التي وصلتنا عن تلك الحقبة بالنوايا الفعلية للمتصارعين يميل إلي التقليل من اهمية البعد الديني للمعارضة الشيعية. هذا الموقف الذي يتبناه العديد من المستشرقين ألحق ولا يزال يلحق حتي الان ضررا كبيرا بالدراسة الموضوعية الخاصة بالدين الإسلامي.
فهم يصدقون أقوال مؤرخي السلطة اكثر مما يجب. ومعلوم ان التاريخ في كل الامم يكتبه المنتصرون لا المهزومون. ان هذا الموقف يؤدي إلي اعتبار المواقف التي اتخذتها الفرق المعارضة وكأنها منحرفة، شاذة، متطرفة، من خلال نعت اصحابها بالغلاة. انظر الموقف الرسمي من الخوارج مثلا أو بعض الفرق الشيعية. فلكي يسفهوهم ويحطوا من قدرهم ألصقوا بهم هذه التهمة. نقول ذلك علي الرغم من ان الخوارج ليسوا كلهم أزارقة وانما معظمهم من الاباضية الذين لا يمكن نعتهم بالغلاة.
وبالتالي فان اركون يوجه التحذير التالي إلي كل من يريد ان ينخرط في دراسة تاريخ الإسلام: عليه ان يشك في كل المصادر الإسلامية القديمة والحديثة عندما يتصدي لدراسة التاريخ العقائدي للإسلام. فهي كلها مكتوبة من وجهة نظر الفرقة المنتصرة سياسيا وبالتالي فليست موضوعية في سردها للاحداث وانما متحيزة بالضرورة. عليه ان يكون حذرا جدا في استخدامه لهذه المصادر التي تتحدث عن كيفية انقسام الامة إلي عدة فرق في الزمن الاول.
فهي تنطلق من المنطلق اللاهوتي التالي: وحدها فرقة السلطة هي الصحيحة وبقية الفرق خاطئة، وحدها هي الناجية وبقية الفرق في النار. ولكن هذا لا يعني ان عليه ان يصدق كل ما تقوله الفرق المعارضة التي اضطهدت علي مدار التاريخ سواء اكانت شيعية ام خارجية.
لا ينبغي ان نصحح خطأ سابقا بارتكاب خطأ آخر. وانما عليه ان يأخذ ما تقوله عن تلك الاحداث الحاسمة بعين الاعتبار ويقارن بين رواياتها وروايات كتب السلطة الرسمية السنية من اجل التوصل إلي الحقيقة الموضوعية إلي اقصي حد ممكن. وهذه هي مهمة كل مؤرخ محترف يحترم نفسه. لا ينبغي باي شكل ان يتحزب بشكل مسبق لاقوال ممثلي السلطة من الفقهاء والمؤرخين ولا لممثلي المعارضة. ينبغي ان يتحزب للحقيقة الموضوعية ولها فقط. ولكي يتوصل اليها ينبغي ان يضع أقوال جميع الفرق الإسلامية دون استثناء علي محك المراجعة والنقد والتمحيص.
بعد ان قلنا ما قلناه سابقا ينبغي ان نعترف للسلطات الاموية انها في الوقت الذي كانت تواجه فيه المعارضة الشيعية والخارجية بقوة السلاح أو بالحجج والحرب الكلامية فانها راحت تشكل ادارة مركزية فعالة للدولة.
وأدي ذلك لاحقا إلي توفر الظروف الملائمة للبلورة العقائدية للإسلام. وهي بلورة سوف تضغط علي التطورات اللاحقة لفترة طويلة. عندئذ تشكل إسلام رسمي سوف يدعي بالمذهب السني لاحقا. وراح يغتني بالمعايير والقواعد والقوانين والنصوص والمفاهيم الدقيقة قليلا أو كثيرا وذلك علي الاصعدة الثلاثة التالية: صعيد الشريعة، وصعيد العلوم الادواتية، وصعيد الاسس النظرية. فلنفصل القول في كل هذه الاشياء علي التوالي.
بدايات الشريعة وكيف تشكلت تاريخيا
شكلت ابحاث المستشرق غولدزيهر التي وسعها لاحقا وأضاف اليها وأكدها خلفه المستشرق الآخر جوزيف شاخت ثورة كوبرنيكية في مجال الدراسات الإسلامية الخاصة بالشريعة وكيفية بلورتها وتشكلها الفعلي. وهنا ايضا نجد ان الابحاث التاريخية الرائدة تزعزع اليقينيات الاكثر رسوخا في الوعي الجماعي.
فالصورة التي قدمها عن الموضوع مؤلفو كتب اصول الدين واصول الفقه في القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي هي في الواقع استرجاعية اسقاطية وغير تاريخية. لماذا؟ لانهم يعزون إلي الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة ميزة ممارسة الاجتهاد واستنباط الاحكام الشرعية والتعاليم الفقهية الدينية من القرآن والحديث في حين ان ذلك لم يحصل إلا لاحقا وبفترة طويلة.
وبالتالي وعلي عكس الصورة الشائعة والراسخة في الجهة الإسلامية فان الفقه بالمعني الفعلي للكلمة لم يتشكل طيلة القرن الاول للهجرة وانما في القرنين الثاني والثالث: أي بعد موت النبي والصحابة بزمن طويل. فطريقة أداء العبادات طيلة كل الفترة الاولي والقواعد التي تتحكم بالعلاقات الاجتماعية أي المعاملات كانت تخضع لقرارات خاصة يستلهمها المسؤولون السياسيون والدينيون من قانون العرف العربي السابق علي الإسلام والذي كان لايزال حيا حتي بعد ظهور الإسلام بزمن طويل.
فالإسلام لم يجبّ كل شيء بين عشية وضحاها كما نتوهم. كما وكانوا يستلهمونها من القانون الروماني البيزنطي الذي حكم سوريا لعصور طويلة ومن القانون التلمودي اليهودي ومن القانون الكنسي للكنائس الشرقية ومن القانون الفارسي الساساني. بمعني آخر فان الامويين طبقوا علي الناس نفس القوانين التي وجدوها في البلاد المفتوحة وذلك بانتظار ان يتبلور القانون الإسلامي نفسه.
وكان القضاة المعيّنون من قبل ولاة بني أمية يقضون بين الناس كما يشاؤون ويشتهون ويطبقون عليهم كل هذه الاعراف والقوانين السائدة أو يستخدمون عقلهم ورأيهم الشخصي في اطلاق الاحكام. بالطبع فكانوا يأخذون بعين الاعتبار روح القرآن وحرفيته بالاضافة إلي القوانين الدينية الأخري المعروفة.
ولكن ليس من السهل ان نحدد بدقة تأثيرات كل هذه القوانين والاعراف علي ما سيصبح الشريعة لاحقا. كل ما نعرفه هو ان تفكير القضاة والاختصاصيين الاوائل بالتشريع كان يمارس ذاته طبقا لخط مرن ووضعي عملي لا لاهوتي ديني. وضد هذا الخط المرن والواقعي العملي سوف ينهض فقهاء المرحلة العباسية ومنظّروها.
والواقع ان عملية رد الفعل ابتدأت منذ القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي. فالمحدثون أو أهل الحديث الذين كانوا منتشرين في الامصار والمراكز الإسلامية الكبري كالكوفة والبصرة والمدينة ومكة راحوا يقومون بمعارضة عنيفة وفعالة اكثر فاكثر ضد الاعراف العربية القديمة والتراثات الحية المذكورة آنفا والتي كانت المذاهب الإسلامية الاولي قد حاولت دمج قوانينها ومكتسباتها التشريعية.
وفيما بعد راح أهل الحديث الظافرون يعرضون عملهم كرد فعل ضروري علي المقولات الوهمية لأهل الرأي والمتمثلة بمذهب ابي حنيفة. فأهل الحديث لا يثقون برأي الانسان ولا بعقله وانما فقط بالنص الديني. واكبر مثل عليهم الحنابلة. ولذلك فانهم يكرهون الحنفية.
ثم يردف محمد اركون قائلا: في الواقع ان مفهوم المذهب في الإسلام لم يبتديء بفرض نفسه إلا في منتصف القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي. فأبو حنيفة الذي مات عام 150هجرية/ 767 ميلادية، والاوزاعي(157- 774)، ومالك بن أنس (179 - 795)، وآخرون عديدون كلهم كانوا في البداية عبارة عن مجرد معلمين متواضعين لمجموعات لا تزال مرتبطة بالتراثات الحية السابقة علي الإسلام في الكوفة ودمشق والمدينة. ولكن طرأت عدة عوامل اجتماعية وسياسية ودينية أدت إلي تخلي الفقهاء الاوائل عن هذا الفكر القضائي والتشريعي الوضعي بشكل تدريجي. وفي ذات الوقت راحت المذاهب تتشكل وتحل محلها بزعامة الائمة المجتهدين.
ينبغي القول بان الشافعي(204 - 820) لعب دورا كبيرا في هذه العملية. ففي رسالته الشهيرة راح يبلور الاسس الخاصة بعلم جديد هو: علم أصول الفقه. ولم ينفك هذا العلم يغتني عن طريق الاحتكاك بالعلوم النظرية أو العقلية كعلم الكلام والفلسفة. ومعلوم ان هذين العلمين الاخيرين انطلقا في نفس الفترة وراحا يحتلان مكانتهما في الساحة الإسلامية علي الرغم من معارضة الحنابلة أو أهل الحديث الذين يمثلون التيار المحافظ أو التقليدي في الإسلام. وسوف يتجلي لنا محتوي هذا البحث عن أصول الفقه وأهميته عندما ساتحدث عن الحركة الفكرية ايام العباسيين الاوائل.
العلوم الادواتية أو القرآنية
يري اركون انه بموازاة الفعالية التشريعية التي لا تنفصل عن الفعالية الادارية الخاصة بتسيير أمور الدولة وشؤون القضاء شعر العرب المسلمون بالحاجة إلي تجميع اكبر قدر ممكن من المعارف من اجل ان تساعدهم في فهم النص القرآني بشكل افضل وتفسيره واستنباط الشرائع والاحكام منه. وهكذا راحوا يهتمون بدراسة علم النحو والصرف والمعاجم وفقه اللغة وممارسة علم التاريخ علي الطريقة البدائية للوعاظ أو القصّاص الشعبيين.
وبالاضافة إلي كل ذلك فان التفسير القرآني راح يتطور في اتجاهين متباعدين ومختلفين اكثر فاكثر. فمن جهة كان هناك اولا أتباع التفسير الحرفي والظاهري الذي تبناه الحنابلة والظاهريون واصبحوا من أتباعه الاكثر تحمسا وتماسكا. ومن جهة اخري كان هناك اولئك الذين يريدون اختراق قشرة اللغة الخارجية لكي يتوصلوا إلي المعني الاولي أو الاصلي الحقيقي.
من هنا نشأت كلمة تأويل باللغة العربية فهي تعني اعادة الدلالات إلي أصولها الاولي المخفية في الداخل أو الباطن. ومن هنا نتج ايضا التفسير الباطني للقرآن. وهذه التقنية في فك رموز القرآن ومعانيه سوف تشهد لدي الشيعة وبخاصة لدي الاسماعيلية الباطنية تطورات مبتكرة وغنية.
ينبغي العلم بانه خلال القرنين الاولين فان الفعالية التفسيرية راحت تحصل وتتوسع داخل مناخ فكري يهيمن عليه جمع الحديث النبوي. وهذا علم أدواتي ومولّد لعلوم اخري في نفس الوقت. كل ما يخص حياة النبي أو السيرة النبوية، والظروف التي نزل فيها الوحي أي اسباب النزول، واعمال الصحابة، والصدر الاول كلما زاد الابتعاد عنه، اصبح مادة للبحث المتحمس إلي اقصي الحدود من اجل ضربه للاجيال التالية كمثال وقدوة حسنة ثم من اجل غايات تحزبية ايضا.
وهكذا راحت البلورة العقائدية للمذاهب الإسلامية والصراعات السياسية تعبر عن نفسها فقط من خلال كتب الحديث الضخمة جدا والمجموعة علي هذا النحو. وفي ذات الوقت راح تصور معين عن الشهادة يفرض نفسه وكذلك عن الوثيقة وفي نهاية المطاف عن ممارسة كتابة التاريخ يفرض نفسه علي المؤلفين العرب والمسلمين. فالعنعنة كما يقال اصبحت تقنية التأليف الاساسية ليس فقط بالنسبة للحديث النبوي وانما ايضا بالنسبة لمختلف انواع العلوم.
قال فلان عن فلان عن فلان الخ..وهكذا راح المحدثون يحورون الماضي ويزينونه إلي حد انهم خلعوا القدسية ليس فقط علي النبي وانما ايضا علي ما يدعي بالسلف الصالح معطين الامتياز والاولوية لاسلوب الرواية بصفتها منهجا لمعرفة الماضي.
ولكن المحدّثين، أو جامعي الحديث النبوي، اذ غلّبوا هيبة النصوص البشرية علي التفكير الحر المستقل فانهم ساهموا في الحد من التأثير القارض أو المدمر للتيارات الفكرية الاجنبية علي الإسلام.
والواقع ان العديد من المؤلفات المبتكرة والافكار الجديدة راحت تتخذ اسلوب الحديث وتقنيته لكي تفرض نفسها في الساحة الثقافية العربية الإسلامية وتأخذ المشروعية. ولكن هذا النجاح الذي حققه كتبة الحديث كان يحمل في طياته بذورا سلبية ضارة. فبسببه راحت آفاق الفكر العربي الإسلامي تضيق وتتقلص وتظلم بل وتنغلق كليا احيانا.

الأحد17/8/2008
الراية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.