شقّ دربه مستغنيا عن كماليات الحياة وترفها التي يسعى جلّ أترابه إليها.. اختار أن يكون الكتاب المنزّه عن الخطأ شهادة ميلاد ثانية له، تبعثه من جديد للبسيطة بروح نقية تقية، وأن يكون القرآن الكريم ربيع عمره، وهو في زهرة عمره.. ياسين إعمران.. مقرئ أبى إلا أن يحدثنا بلغة الشاكر لربّ العرش العظيم، وبصوته الشجي جعلنا نعيش وقتا مستقطعا من الزمن، في رحاب الله. ينحدر المقرئ ياسين إعمران من عائلة تتكون في الأصل من 7 أفراد، والداه ذوي أصول أمازيغية، تمتد جذورهما وتنبثق من دشرة سيدي نعمان بتيزي وزو، وبعد اقترانهما انتقلا للعيش في الجزائر العاصمة، وتحديدا بباش جرّاح، أين رأى ياسين النور، ليكون الابن الرّابع بعد ولدين وبنت، ثم تلاه أخوه الأصغر آخر العنقود. ترعرع ونما إعمران بباش جرّاح، فاحتضنته جدران البيت الذي يحمل كل ركن من أركانه ذكرى براءته.. تلقى تعليمه الابتدائي هناك، ولم يدخل قطّ لا كتّابا ولا زاوية لتعليم القرآن، لكن الصبي لم يكن يعلم آنذاك أن القدر يخبئ له كنزا من كنوز الجنّة. ومع بلوغه سن العاشرة من عمره، ألفى حاله في اشتياق جامح للإنصات إلى ترتيل القرآن فينة، ولتعلّم أصوله وأحكامه فينة أخرى، ومن هنا.. من سن البراءة، انطلقت رحلته مع آيات الرحمن الرحيم. يتذكر الشاب إعمران أيام الصبا والطفولة، فيقول ''عندما بلغت سن العاشرة من عمري، أحسست أن نفسي بحاجة ماسة لأن تتغذي من آيات العزيز الحكيم، وساعتها قررت التوجه إلى خالقي بجوارحي، والشروع في حفظ القرآن''. كنت أنصت للتلاوة بصوتي الشيخين عبد الرحمن السديسي وعبد الباسط عبد الصمد، كنت أتأثر كثيرا، وأحاول جاهدا تقليدهما، رغم عدم معرفتي للمقامات، ولم أكن أفهم حينها حتى طريقة التجويد، إلا أن حرارة الرّغبة في التلاوة كانت تتأجج يوما بعد يوم بداخلي، وكان لديّ حب كبير، وقابلية أكبر لحفظ القرآن الكريم، وقوة تدفعني للبحث عن أحكام وأصول الترتيل''. رغم أن والده لم يكن يحفظ القرآن، إلا أن التشجيعات المتواصلة من قبل أمه وإخوانه جعلته يقدم على الحفظ والتلاوة، ''أبي لم يكن يحفظ القرآن، ولكنه كان يقرأه بكثرة، ويحثّني على فعل ذلك، وهو حال أخواي الأكبر مني سنا، واللذان وقفا بجانبي وساعداني كثيرا، ولعلّ ما أثناهما عن حفظه هو تلك الفترة العصيبة التي مرّ بها البلد سنوات التسعينات'' يقول ياسين. ''أخذني والدي حفظه الله إلى مسجد ''أبي عبيدة'' بالحي الذي أقطن فيه، وهناك تعلّمت الطريقة المثلى للحفظ على يدي معلّمي الإمام الشيخ عبد الرّشيد منصوري، فيما علّمني الشيخ عبد الله كشّاوي أحكام التجويد وعلومها، وأجازني في رواية حفص عن عاصم''. وعن ولوجه عالم الحفظ، يحكي المقرئ ''بدأت مزاولة الحفظ انطلاقا من آخر المصحف، وهو ما علّمنا إياه شيخي الإمام منصوري، وكنت أجتهد في تخزين كل ما أحفظه بذاكرتي، خاصة وأن هذا الفنّ الذي لا قبله ولا بعده فن استهواني، وعشّش داخل كياني''. يواصل ياسين ''فكنت كثيرا ما أنصت لكبار المشايخ وأحاول تقليدهم في طريقة تجويدهم، على غرار الشيخين عبد الباسط عبد الصمد ومحمد الصديق المنشاوي، فالعديد من أهالي باش جرّاح يروقهم سماع صوتهما في التجويد''. وأما عن طريقته في الترتيل، فأوضح إعمران أنه يقرأها على طريقة المرحوم الشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ أحمد عامر. ويواصل المقرئ الشاب ''لطالما تأثرت بالطريقة المشرقية في القراءة والتجويد، لقد كان ولا يزال مشايخها مدارس في هذا الفن''. سألناه عن القصد من وراء وصف تجويد القرآن بالفن، فكانت إجابته ''قد يقرأ أحدهم القرآن، ولكنه لا يمتلك فنيات قراءته، ولا يدرك الطرق المثلى لكي يتعامل مع الآيات، ولذا فتطبيق المقامات مع مراعاة الأحكام يجعلنا أمام فن خالص وبحت''. وأخذنا إعمران في رحلة قادتنا بين خبايا المقامات المستعملة في التجويد، فانتقلنا من مقام الصبا، حيث أخبرنا بأن هذا الأخير مخصص للآيات التي تحمل الوعيد وتنذر بالعقاب، ثم مقام الرصد، المخصص للآيات التي تبشّر بالجنّة ونعيمها وأجر المتقين التوابين، ومنها إلى مقام البيات الذي يبتدئ المقرئون به تجويدهم، وغيرها من المقامات. يحفظ ياسين إعمران 50 حزبا، وهو الآن في سن الثامنة عشر، تحصّل الموسم المنصرم على شهادة البكالويا شعبة آداب وفلسفة، من ثانوية ''عبد الحفيظ ميراد''، لينتقل إلى الدراسة الجامعية، وهو حاليا في السنة الأولى حقوق، بكلية العلوم القانونية والإدارية ببن عكنون، وبرّر عدم ختمه لكتاب الله بالضغط الذي عاشه السنة الماضية جرّاء التحضير لاجتياز عقبة البكالوريا، ولكنه أكد أنه سيقوم بختم القرآن قريبا. سألناه عن كيفية التحاقه بمسابقة فرسان القرآن فقال ''في الحقيقة، كنت أحد الأيام جالسا بالمسجد أرتّل آيات من الذكر الحكيم، وإذا بأحدهم يتجه صوبي، ونصحني بالترشّح للمشاركة في المسابقة، وهو ما فعلته، ولكنني لم أكن أتوقع الوصول إلى الدور النهائي، خاصة وأن عدد المشاركين بلغ حسبما أخبرنا به سليمان بخليلي10 آلاف صوت، وهذا ما يدلّ على أن الشعب الجزائري له ثقافة إسلامية واسعة''. لم نفهم السبب الذي جعل المقرئ ياسين إعمران، يختار تمثيل ولاية تيزي وزو في المسابقة، رغم أنه ولد ونشأ وكبر في الجزائر العاصمة، طرحنا عليه السؤال فكانت إجابته مقنعة جدا.. كان ردّ إعمران بقوله ''وفائي وإخلاصي لأبي وأمي، وسعيي ولو لردّ جزء بسيط من شقائهما وتعبهما عليّ، هذا من جهة، والوقوف في وجه المسيئين للإسلام ولشخص الرسول الكريم من جهة أخرى، جعلاني أقرر تمثيل تيزي وزو بصوتي، فأنا أرى في ذلك ردا على من يتهم الولاية بأنها معقل حملات التنصير المتصاعدة، لأثبت أنها معقل من معاقل نشر الدين الإسلامي''. وأكد المقرئ اليافع ياسين إعمران في نهاية حديثنا، أن طموحه لا يختلف عن طموح زملائه حفظة القرآن، حيث يحلم بالتوجه إلى المشرق العربي والاغتراف من العلوم الدينية لديهم، كون المدرسة المشرقية لها جذورها العريقة -حسبه- والضاربة في عمق التاريخ.