لا ينقطع الحديث عن الإنجاز الذي تحقق للسياسة الخارجية السورية، وقد اعتبرت القمة الرباعية (السورية التركية الفرنسية القطرية) في دمشق تتويجا له، ومحور ما يدور الحديث عنه هو أن سوريا خرجت في عهد الأسد الثاني من حقل الألغام واستعادت دورها الإقليمي أو اكتسبت دورا إقليميا جديدا قائما على الموازنات السياسية الشديدة التعقيد كما كان الحال عبر عدة عقود مضت. " أول ما يتراءى للعيان أن الثمن الذي سيدفع لكسر طوق العزلة عن سوريا وإجهاض المؤامرة ضدها سيكون على حساب القضية المركزية المصيرية، القضية الفلسطينية " لا يستهان بشأن هذا الإنجاز المتحقق ولا ينبغي التقليل من قيمته، ولكن مع عدم إغفال عدد من الملاحظات الأساسية، وأهمها: 1- جزء كبير من أسباب كسر طوق العزلة الذي سعت واشنطن ومن معها لفرضه حول سوريا، يعود إلى عوامل أخرى لم تصنعها السياسة السورية، وإن كان ذلك لا ينفي أنها استفادت من الفرص المتاحة التي لا يستفيد منها المسؤولون في كثير من البلدان العربية والإسلامية الأخرى. من هذه العوامل وأهمها المقاومة البطولية ضد هجمة الهيمنة الصهيو-أميركية، من أفغانستان إلى العراق إلى فلسطين وحتى الصومال، فهي -وليس الصمود السوري للضغوط وحده- العنصر الحاسم في تقويض المخططات العدوانية عموما، أو الحيلولة على الأقل دون أن تتحقق بصورة تسمح بالبناء عليها والانطلاق لفرض المزيد من الهيمنة على مزيد من دول المنطقة، كسوريا. ومن تلك العوامل أيضا على سبيل المثال دون الحصر خصوصية الوضع التركي الذي قام على سياسة جمعت بين القوة الذاتية اقتصاديا وماليا وبالتالي سياسيا، وبين الحفاظ على أبواب العلاقات الإقليمية الشاملة لسوريا أيضا، التي استفادت من هذه المعطيات في الساحة التركية، رغم الضغوط المضادة. 2- أن وصف المسار السياسي الحالي -وفق ما خرجت به القمة الرباعية- بأنه إنجاز وصف نسبي، فقد كان العنصر الحاسم في كسر العزلة، بمشاركة فرنسية في الدرجة الأولى هو فتح بوابة المفاوضات السورية الإسرائيلية مجددا. وأيا كان ما يمكن الوصول إليه عبرها، يبقى ذلك دون مستوى التطلعات الشعبية ودون مستوى قضية فلسطين بمنظورها التاريخي والقانوني الدولي، ولا يغيّر من ذلك شيئا أن يصف الرئيس السوري "السلام" الذي يريده بالسلام العادي بدلا من "التطبيع"، فالمضمون واحد. ولئن تحقق ذلك السلام بأقصى المعلن من أهدافه، سواء مع استباق ما قد يجري على المسار الفلسطيني أو بالتزامن معه، فسوف تبقى حصيلته -بسبب موقع سوريا التاريخي في القضية- من أخطر الدعائم على طريق تصفية قضية فلسطين، ولا قيمة بعد ذلك لأي عنوان مبتدع من العناوين التي تُرفع للتمويه على حقيقة المشاركة في التصفية. 3- أن الحديث عن "إنجاز" كبير يصدر عن المقارنة بين السيّئ والأسوأ، على مستوى السياسات المتفرقة القائمة في المنطقة، في غياب سياسة عربية وإسلامية مشتركة وفاعلة في صناعة الأحداث والتفاعل مع التطورات، كما أنه مقارنة بين السيّئ والأسوأ بمنظور السياسة السورية نفسها، بمعنى المقارنة بين العزلة الدولية وربما التعرّض لمؤامرة عدوانية مباشرة، وبين الثمن الذي يُدفع لكسر طوق العزلة وإجهاض المؤامرة. وأول ما يتراءى للعيان أن ذلك الثمن سيكون على حساب القضية المركزية المصيرية، وهي مصيرية بالنسبة إلى مستقبل سوريا أيضا. الفارق كبير بين هذا "الإنجاز" وإنجاز يقوم على المبادرة والتغيير وصناعة الحدث إقليميا، ولا يخفى أنّ الوضع العربي القائم هو العقبة الكبرى على هذا الطريق، لكن القول في المقابل، إن ما كان يرجى للسياسة السورية -ولأي سياسة قطرية أخرى- هو التمكن من حلحلة عقدة تلك العقبة بالذات، لصنع التغيير الفعال عربيا وإسلاميا، فآنذاك يكون الإنجاز الأكبر الذي يحمل في طياته وصف التاريخي بمعنى الكلمة. وفي جميع الأحوال لا ينبغي للسياسة الخارجية السورية أن تغفل عن أن كسر طوق العزلة في الإطار المذكور لا يعني نهاية استهداف سوريا. فقبل حملة الحصار الأخيرة عبر بوابة لبنان وبذريعة اغتيال الحريري، كان النظام السوري على علاقة جيدة نسبيا مع القوى ذاتها التي سعت للحصار لاحقا، وفي مقدمتها فرنسا. ولا يوجد في سياسة فرنسا ساركوزي على الإطلاق ما يضمن عدم انقلابها على نفسها بين لحظة وأخرى، ولئن تبدّلت السياسة الفرنسية تجاه سوريا في عهد شيراك فاحتمال تبدلها أكبر بكثير في عهد ساركوزي. ثم إنّ التحرك الفرنسي كما يراه كثيرون أقرب إلى ملء فراغ مؤقت يرافق الشهور الأخيرة من عام الانتخابات الأميركية، وليست هذه المرة الأولى التي يتحرك فيها طرف أوروبي على صعيد قضايا المنطقة، لتصب الحصيلة مجددا في إطارها الغربي المشترك بعد عودة الأمور إلى مجاريها على مسرح صناعة القرار الأميركي. " من سلبيات ذلك الدهاء الذي استعمله الأسد الثاني ونواقصه أنه بدلا من الانفتاح الحقيقي على المعارضة كانت تُستخدم ورقتها استخدام الاستغلال السياسي الداخلي " لا يُستبعد إطلاقا أن تعود سياسة الحصار كما كانت أو بصيغة جديدة، وأن تجد سوريا نفسها في موقع المستهدف مجددا وبصورة مباشرة. هنا تبدو مشكلة محورية في السياسات العربية والإسلامية لا السورية فقط، وهي أنّ موازين النجاح والإخفاق، والإنجاز والتراجع، لا تقوم على ما تصنعه السياسات الذاتية بل على معيار الانصياع وحجمه أو الامتناع عنه تجاه ما تصنعه القوى الأخرى، بما فيها القوى المعادية علنا. وهذا ما يستدعي التأكيد مجددا أن الإنجاز المطلوب الذي يمكن أن يحدث تغييرا بعيد المدى على أسس وطيدة، هو ما يقوم على سياسة عربية وإسلامية مشتركة على مخططات مدروسة وتضامن حقيقي، مع تعبئة الطاقات الذاتية، وخارج نطاق مختلف أشكال التبعيات الأجنبية، وذاك مستحيل دون التحرك على أساس قاعدة شعبية عريضة، وإرادة شعبية حرة وأنظمة قويمة. كثير من التقدير الذي يجده هذا الإنجاز السوري يعود إلى تركيز النظر إليه عبر ما كان من سياسة خارجية سورية متميزة في عهد الأسد الأول، ثم ما كان من توقعات وتكهنات عندما استلم بشار الأسد الرئاسة قبل سبع سنوات ونيف. آنذاك بدا لكثير من المتابعين للشأن السوري أنه لن يتمكن من ملء الموقع الذي شغر بموت أبيه الموصوف بالداهية على المستويين الداخلي والإقليمي. وعندما ألقى الأسد الابن كلماته الأولى في قمتين، عربية وإسلامية، تردّد أنّه رئيس مثقف، فاعتبر حالة نادرة على المسرح السياسي العربي، حتى إذا اتخذت التطورات مجراها واضطر الجيش السوري إلى الانسحاب من لبنان، وتحولت سوريا من دولة فاعلة إقليميا إلى دولة محاصرة دوليا وإقليميا، أصبح ذلك بمثابة الدليل على أن الرئيس الشاب لا يملك من الخبرة السياسية ما يكفي للتحرك على آثار أبيه. لقد وجد العهد الجديد نفسه خلال سنوات معدودة في متاهة غابة كثيفة من التطورات والأحداث والحروب، المقترنة بنشر الفوضى الهدامة في المنطقة، والسعي الصهيو-أميركي بعنجهية غير مسبوقة لتطويع أنظمتها أكثر مما مضى وتحت وطأة ضربات عسكرة الهيمنة والتهديد بها. ولكن يبدو أن الأسد الثاني ورث من أبيه الدهاء لا السلطة فقط، فهنا تكمن القيمة الحقيقية للرمز الذي تشير إليه القمة الرباعية، وما سبقها من ممارسة سياسية لأساليب التراجع في موقع والتقدم في آخر وفتح الثغرات عبر طوق الحصار الخارجي وتوظيف الأحداث الجارية، حتى أمكن تجاوز مرحلة شديدة الوطأة على المنطقة عموما، وعلى ما يسمى محور المقاومة والممانعة تخصيصا. كان لا بد لتحقيق ذلك من أن يعمل الأسد الثاني على توطيد سلطته الداخلية، بعد أن بدا أن ما كان يحمل عنوان "الحرس القديم" يمكن أن يجعل سلطة الرئاسة شكلية فقط، وتحقق ما أراده الرئيس "الشاب". ولكن ما يعبر ذلك عنه من دهاء سياسي داخلي يبقى دهاء ناقصا إلى حد خطير، فقد أوجدت السنوات الماضية على استلام السلطة فرصة تاريخية لتحويل نظام الحكم في سوريا من استبدادي، حزبي أو فردي، إلى نظام عادل قائم على إرادة الشعب، وعلى جمع القوى المخلصة على أرضية مشتركة في مواجهة الأخطار الخارجية، وعلى درب معركة البناء الداخلي.. ولم يتحقق ذلك. من سلبيات ذلك الدهاء ونواقصه أنه بدلا من الانفتاح الحقيقي على المعارضة كانت تُستخدم ورقتها استخدام الاستغلال السياسي الداخلي، فالتلويح بصفحة جديدة في عهد جديد، وبتغيير سياسي يضمن الحقوق والحريات، وغير ذلك من الوعود التعميمية كان أبرز ما ميّز الكلمات الأولى للرئيس السوري بشار الأسد، وكانت من مداخل الضغوط على الخصوم من المنتفعين من مواقعهم في السلطة.. ثم لم يتحقق شيء من تلك الوعود، بل كان الإعلان واضحا للتراجع عنها لاحقا بدعوى إعطاء الأولوية لإصلاح إداري واقتصادي وتأخير الإصلاح السياسي. وهذا ما يعزز القول إن تلك الوعود كانت من الأوراق التي وظفها الرئيس السوري وأنصاره في الداخل، ليمكن التخلص تدريجيا من أعمدة "الحرس القديم" حتى إذا تم ذلك واقعيا، لم تعد توجد حاجة إلى تنفيذها! " الأهم في سوريا هو ما يتم تحقيقه داخليا بمعزل عن مؤثرات خارجية، سواء كانت في صيغة "استقواء بالخارج" أو كانت في صيغة "ذريعة الخطر الخارجي" " قد يرى البعض في هذا ضربا من الدهاء السياسي الداخلي يكمل الدهاء السياسي خارجيا، ولكنه دهاء لصالح الانفراد المفروض بالسلطة، وليس لصالح وضع مستقر قائم على إرادة الشعب وتحريره داخليا لتكون وحدته الوطنية الحقيقية هي الحصن المنيع على المدى القريب والبعيد في مواجهة الأخطار الخارجية. مثل هذا الدهاء سواء كان موروثا أم لا دهاء ناقص، قد يحقق هدفا مرحليا ويحد من خطر آني، ولكن لا يكفي لتحقيق أهداف جليلة، محلية وإقليمية، ولا لدفع الأخطار الخارجية بصورة نهائية. وليس صحيحا ما ذكره وزير الخارجية السوري وليد المعلم في "لقاء خاص" لفضائية الجزيرة من أن الولاياتالمتحدة الأميركية حاولت أن تلعب بورقة المعارضة والأوضاع الداخلية وأخفقت، معللا بذلك خرق طوق العزلة غربيا. فالواقع أن واشنطن لم تجد من قوى المعارضة في الداخل والخارج من يمكن توظيفه للقيام بأدوار من قبيل ما بات يحمل عناوين الجلبي وكرزاي، بل أدركت واشنطن أن بعض من كانت على اتصال بهم، لا يملكون من الأصل قدرة على التحرك شعبيا ولا سياسيا، ولئن كان لهم شيء من ذلك فقد احترق سريعا في الأفران الأميركية. إن واشنطن عاجزة عن تحرك من هذا القبيل لأن المعارضة السورية بمختلف أطيافها تأبى الدعم الأميركي بأي شكل من الأشكال وتحت أي ذريعة من الذرائع، وتفضل الطريق الصعب الطويل اعتمادا على الإمكانات الذاتية، وإن ضعفت بسبب البطش المتواصل بها في الداخل، إلى جانب الأسباب الذاتية المتجلية في فرقتها وافتقاد المبادرة الفاعلة من جانبها. ولكن أيا كان ما تصنعه واشنطن، يبقى الأهم في سوريا هو ما يتم تحقيقه داخليا بمعزل عن مؤثرات خارجية، سواء كانت في صيغة "استقواء بالخارج" أو كانت في صيغة "ذريعة الخطر الخارجي". وإذا كان الرئيس السوري مقتنعا فعلا بما قال في كلمته عقب الهزيمة الإسرائيلية في لبنان، من أن الخطر الخارجي كان سبب تبديل الأولويات الداخلية وإعطاء الأمن الأولوية على سواه لاسيما الإصلاح السياسي، فلا أقل من التأكيد الآن أنه قد آن الأوان إذن. وبعد ما يعتبره النظام السوري إنجازا كبيرا في "القمة الرباعية"، على رأس الهرم في السلطة أن يلتفت إلى الوضع الداخلي وإصلاحه، وهو ما يستحيل تحقيقه دون أن يكون الإصلاح شاملا لمختلف الميادين السياسية بالذات والاقتصادية والإدارية، وأن يكون عبر إصلاح الدستور وفصل السلطات واستقلال القضاء وإلغاء كل ما ابتكر من صيغ ومقولات وذرائع لتحكيم فئة من الفئات بجميع فئات الشعب، كما لو كانت هي "الفئة المختارة" دون سواها! __________________ كاتب سوري