يتجدّد النقاش، مع التوتر الأخير بين حزب العدالة والتنمية ووزارة الداخلية المغربية، حول مسار الحزب الإسلامي وخياره السياسي وأفقه الإصلاحي، ويُطرح السؤال الأصل: هل كان الخطأ في الموقف وبعض المواقف أم في المسار وطبيعة الخيار؟ قد يخالف البعض هذا الرأي –ومِنْ حَقِّه- فيرى أن السؤال مُغلق ومُوجَّه نحو الخطإ بالضرورة في حَدَّي السؤال أعلاه معا أو في أحدهما على الأقل، والحالُ أن الصواب ممكن ومحتمل في الموقف والمسار كليهما وليس في أحدهما فقط كما يقرِّر السؤال منذ البدء. أترك البحث يجيب تدريجيا على هذا الاعتراض، وأبادر إلى القول بأن خطأ حزب العدالة والتنمية كان في المنطلق منذ البدء، في المسار والخيار والإطار، في قبول شروط مجحفة للعبة محبوكة، في غض الطرف عن إطار سياسي مغلق تَحرُم وتَتَمنَّع فيه -دستوريا وسياسيا- الدواليب المغلقة للنظام على الحزب الإسلامي، أما المواقف فيمكن أن يخطئ فيها الحزب ويصيب وهو الشيء الطبيعي في دنيا السياسة. إن حزب العدالة والتنمية لم يخطئ في موقفه الأخير ودعوته لكشف الجهات التي خطَّطت واستفادت من أحداث 16 مايو 2003 الإرهابية، ولم يُخطئ أيضا الأمين العام للحزب حين قال بأن صديق الملك ومؤسس حزب الأصالة والمعاصرة "فؤاد عالي الهمة" هو الصدر الأعظم في الفضاء العام، ولم يخطئ رئيس الفريق البرلماني "مصطفى الرميد" هو الآخر عندما قال بأن البرلمان مؤسسة صورية تُنتَزع منها الصلاحيات وتُهرَّب منها السلطة مُهدِّدا بالاستقالة، ولم يُخطئ الحزب حين نَدَّد بتدخلات وزارة الداخلية للتضييق على الحزب وتقليص نفوذه وصياغة التحالفات لصالح "الأصالة والمعاصرة" والأحزاب المقربة من السلطة... لم يخطئ الحزب، في تقديري، في كثير من المواقف السياسية والحراك الميداني بل أخطأ في الخيار والمسار وارتضى سقفا سياسيا هابطا لا يتيح الممارسة الرشيدة للعمل السياسي. 1- المشاركة الانتخابية والتحفظ الرسمي المستمر
حينن حسم إسلاميو حركة الإصلاح والتجديد، بداية تسعينيات القرن الماضي، أمرَهم وقرَّرُوا المشاركة في اللعبة السياسية بصيغتها المؤسسية وشروطها الرسمية، بدا لهم لحظتها أن أفق الإصلاح من الداخل له ما يدعمه من مؤشرات سياسية ودستورية تترى، وله ما يسنده من تأسيس شرعي وحركي معتبر، خاصة مع تصاعد خيار المشاركة إسلاميا بعد فشل الخيار الثوري في كثير من البلاد العربية والإسلامية. لا جدال في أن الخيار الانتخابي، في النُظم السياسية الديمقراطية أو شبه الديمقراطية، هو المدخل الأصل للعمل السياسي سعيا نحو الإصلاح والتغيير، لكنَّ الانتصار له في ظل النظم الشمولية والمستبدة يُعتبر مغامرة غير محسوبة النتائج وورطة سياسية مرجوحة، خاصة إذا توالت السنون ولم تظهر ثمرات الإصلاح المأمول، بل واستمر توجس النظام من أصحاب "الخلفية الإسلامية" وتواصل "القبول الرسمي غير المكتمل" للفاعل الإسلامي ضمن الأحزاب السياسية. أولا: عندما أرادت حركة الإصلاح والتجديد تأسيس حزب "التجديد الوطني" في مايو 1992، رفض النظام الحاكم أن يكون لطرف من الإسلاميين حزب خاص، واقترح على إخوان بنكيران إطارا سياسيا آخر هو حزب الخطيب -الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية-، ليكون هو المدخل نحو صناديق الانتخابات والبوابة إلى "مؤسسات الدولة". وإذا كان مرفوضا أن تخالف الدولة، ما دامت تدَّعي القانون والديمقراطية، مقتضيات الحرية وتتعسف على حق مواطنين في تأسيس حزب خاص بهم وَفْقًا لرؤيتهم الحركية وفلسفتهم السياسية، فمستغرب أن يتنازل حزب عن حقوقه الكاملة في المواطنة ويرتضي "اكتراء" كيان سياسي قائم لخوض غمار العمل الحزبي والمنافسة السياسية. أَيْ نعم، الاندماج في حزب سياسي قائم هو إحدى صيغ العمل السياسي الممكنة، لكن الأصل هو تأسيس حزب خاص وفق فلسفة ورؤية وأهداف وهياكل خاصة، كما أن الأصل هو الدفاع عن "الحق" والتمسك به قبل البحث عن بدائل أخرى. ثانيا: لم يقف الأمر عند تحديد الإطار السياسي بل تجاوزه إلى التدخل في تحديد نسبة المشاركة الانتخابية وجغرافية الترشيح المسموح بها للحزب. فمعلوم أن العدالة والتنمية لم يُغطِّ في كل الانتخابات التي خاضها جميع الدوائر، ومعلوم أيضا أن قادة الحزب اعترفوا بأنهم تعرَّضوا لضغوط شديدة في انتخابات 2003 وفرضت عليهم وزارة الداخلية نسبة ودوائر المشاركة. وإذا كان "العدالة" يعترف بتدخل وزارة الداخلية عام 2003 فإن تقليص مشاركته في باقي الانتخابات، التشريعية منها أساسا، يمكن أن يُعزى إلى "رقابة ذاتية" –يُسَوِّقُ لها الحزب باسم التدرُّج وعدم الاكتساح- ناتجة عن "المواطنة السياسية المنقوصة"، وهو ما لا يَصُبُّ في النهاية لصالح "بشائر" المشاركة و"حسناتها"، هذا إن لم يكن للجهات الرسمية أياد مباشرة أو إشارات خفية لتثبيت هذه "المشاركة المنقوصة"، وهو الأمر غير المستبعد بما له من سوابق وشواهد. ثالثا: اشتكى العدالة والتنمية مرارا من تدخل وزارة الداخلية في جميع مراحل الانتخابات للحيلولة دون حصوله على نتائج متقدمة يمكنها أن تربك حسابات صناع الخريطة السياسية، وهي الشكاوى التي أثارات نقاشات داخل الحزب وخارجه، ووصفها البعض ب"شكوى العاجز"، في حين دعا آخرون قادة الحزب إلى تبني مواقف أكثر صرامة من الشجب والتنديد والتأسُّف! رابعا: في ثلاثة انتخابات تشريعية خاضها، تَمتَّع حزب العدالة والتنمية، في اثنتين منها، بفرصة ممكنة وحظ وافر للمشاركة في الحكومة، فقد احتل المرتبة الثالثة في انتخابات 2002 وكان يمكنه المشاركة في حكومة إدريس جطو، وحلَّ في المرتبة الثانية في انتخابات 2007 ومع ذلك لم يشارك في حكومة عباس الفاسي، ولم يتمكن بذلك من المشاركة في الحكومتين معا ولو بحقيبة واحدة. خامسا: وقد وصل حد هذه العلاقة غير الطبيعية وما يشبه الوصاية المستهجنة للجهات الرسمية على الحزب، وعلى حضنه الدعوي حركة التوحيد والإصلاح، أن تدخلت وزارة الداخلية في يونيو 2003 لفرض إقالة رئيس الحركة الدكتور أحمد الريسوني، وفي نفس السنة للضغط من أجل التخلي عن رئيس الفريق البرلماني للحزب مصطفى الرميد. الأول على خلفية تصريحه حول أهلية "أمير المؤمنين للفتوى"، والثاني في سياق هجمة الداخلية على الحزب بعد أحداث 16 مايو، وإمكانية اتهام "الرميد" بالتعاطف مع العنف ورفع الحصانة عنه، على خلفية مواقفه القوية من بعض القضايا، وهو ما انتهى باستبدال محامي الحزب بالسيد "عبد الله بها" رئيسا لكتلة الحزب النيابية. إن هذا التدخل في الشؤون الداخلية للحزب والحركة، إلى حد تغيير القيادة العليا ومسؤولي الأجهزة المركزية، يؤشر أوَّلا إلى الطبيعة التحكمية للنظام المغربي في الفاعلين الرسميين، وثانيا إلى حجم الضعف والتنازل الذي بلغه العدالة في علاقته بالدولة، وثالثا إلى الآثار المترتبة عن الشروط المجحفة التي قبل أن يشتغل في ظلها الحزب. سادسا: صاحَب كلَّ تلك الأحداث والوقائع الكبرى حملة رسمية سياسية وإعلامية تَنتَهِجُ التَّشكيك والتَّشويه والتَّصعيد ضدَّ الحزب، وهي الحملةُ التي لا تنتهي إلا لتبدأ، إذ يتأكَّد من فصولها وحيثياتها ومراميها أنها رسمية تديرها أطراف من داخل الدولة عن سبق إصرار وليست مرحلية غير مقصودة. فالعدالة والتنمية هو "المسؤول المعنوي عن أحداث 16 مايو الإرهابية"، وهو صاحب خطاب ثنائي ووجه مزدوج يظهر التسامح الديمقراطي ويخفي التشدد الديني، وهو على علاقة مشبوهة بحزب الله وحماس وإيران والشيعة وحركات المقاومة، وولاؤه للمؤسسة الملكية مشكوك فيه رغم كل الأدبيات والمواقف الرسمية، وموقفه من العنف سيظل يثير الارتياب لأنه منحدر من حركة تَبنَّت العنف السياسي، وربطه المتكرر للفن والثقافة بالقيم والأخلاق ورفضه استدعاء بعض "أهل الفن" يضيف إلى الشكوك السياسية والدينية ظنونا ثقافية... تلك بعض المقولات والتهم الجاهزة التي تُرفَع في وجه الحزب في حملة متواصلة تُرهقه من جهة، وتتركه في موقع دفاع من جهة ثانية، وتؤكد أن "دور الكومبارس" هو ما تريده الجهات الرسمية للحزب من جهة ثالثة. 2- خيار المشاركة والإطار المغلق
إذا تجاوزنا الحديث عن التفاصيل التي تُبرز الشروط المجحفة، التي يشتغل في ظلها الحزب وتؤكد حقيقة استمرار تحفظ الجهات النافذة في الدولة على إدماج كاملٍ له، ووقفنا عند الإطار العام للعمل السياسي بالمغرب، سنلحظ أنه إطار مغلق يُفقد خيار المشاركة أي معنى سياسي، لانعدام إمكانية ممارسة السلطة وتطبيق البرنامج، وبالتالي يصبح هذا الخيار الذي مضى فيه الحزب فاقدا للأساس السياسي المقنع ومرجوحا بميزان الربح والخسارة الحركية. وسيتضح أن خيار المشاركة في النظم المغلقة، دون قطع أشواط في مطالب الإصلاح الدستوري والسياسي من خارج بنية النظام ومؤسساته الرسمية، من شأنه أن يُعرقل مشروع التغيير الإسلامي ويُدخله في دوامة تغيير الجزء وإصلاحه من أجل استمرار الإطار وثباته. أولا: طبيعة النظام الحاكم وتبعية الفاعل السياسي
إن طبيعة النظام الحاكم في المغرب "الملكية التنفيذية" يَرهن المؤسسات الرسمية، تحت اكراهات دستورية وسياسية ودينية، بالتبعية للتوَجُّهات العامة التي يَراها القصر، ولا يُتيح لها مطلقا ممارسة عملها وفق منظورها واختياراتها. باختصار، الملك في المغرب يسود ويحكم، أي إنَّه القائد الفعلي للعمل الحكومي والمُوجِّه الحقيقي للمؤسسة التشريعية، وهو السياسي الأول وحتى الاقتصادي الأول، والملكية المغربية ليست كنظيراتها في أوروبا، بل لها خصوصياتها التي تتيح لها السيادة التامة والحكم المطلق، فالعرش ليس أريكة فارغة والوزراء والنواب أعوان الملك وليسوا سلطة مستقلة. وإلى ذلك فشخص الملك مقدس وخطابه لا يناقش وخطته هي برنامج العمل، لأن المكانة الرمزية والاعتبارية ل"أمير المؤمنين" تعلو كل سياسة. يقول الدكتور عبد اللطيف حسني: "وبصرف النظر عن الثوابت والمقومات التي تعتبرها الملكية شأنا مقدسا، وموضع إجماع وطني، فإنها تضيف لها الاختيارات الكبرى للأمة والتي هي محل شتوافق وطني، وهو الأمر الذي يؤدي وبالملموس إلى هيمنة الملكية، وتركيز السلطة الحقيقية بيد الملك، مما يجعل من باقي المنشآت السياسية المنصوص عليها في الدستور المغربي مجرد ظلال شاحبة". والبرلمان بدوره يفتقد لمقومات المؤسسة التشريعية كما هي متعارف عليها في العالم، إذ المعروف أن الملك هو المُشرِّع الأول في المغرب وفق نص الدستور (الفصول: 28، 29، 69، 72، ..). وعليه تظل الوظيفة التشريعية "تنفيذية" للخيارات والمشاريع التشريعية الكبرى التي تُحددها الملكية. كما أن الوظيفة الرقابية تبقى شبه غائبة لارتباطها بواقع البلقنة البرلمانية والأغلبيات السياسية التي تُصاغ على المقاسات المطلوبة، ناهيك عن النصوص الدستورية التي تُقيِّد إلى حَدٍّ بعيد قدرة مجلسي النواب والمستشارين في الرقابة. ثانيا: مشروع التغيير الإسلامي.. إلى أين؟
بما أن الإطار السياسي المغلق والنظام الحاكم الجامد لا يتيح في الفضاء الرسمي الإمكانات لممارسة العمل السياسي المؤثر، فإنه، من باب أولى، لن يسمح لحزب إسلامي تطبيق مشروعه. يقول العدالة والتنمية أنه "حزب إسلامي" ويتخذ الإسلام مرجعية عليا له، وهو ما يُلزمه الدعوة إلى المطالب الإسلامية والدولة الإسلامية، وهو، وإن كان "يُمرحل" أهدافه ويمنح خطابه "المرونة" اللازمة حتى لا يصطدم مع خيارات الدولة، فإن التعارض والتصادم أوضح من أن يخفى. خلاصة القول: إن الاختلافات الفرعية والجزئية، في مجتمع وبين مؤسسات دولة، أمر محتمل ووارد، وهنا يكون من المقبول والمنطقي الحديث عن الإصلاح من الداخل ومدافعة الانحراف، لكن حين يصبح التعارض جذريا بين المشروع الإسلامي وغيره من المشاريع، بغض النظر عن التسمية، وتصاغ الأطر والقواعد والمؤسسات والقوانين على أعين أصحاب المشروع الآخر، فإن الحديث عن خدمة المشروع الإسلامي من قلب النظام وداخل الدولة ليس حديثا جادا، وترجيح هذا الموقف ليس دقيقا، وانتهاج هذا الخيار ليس مدروسا. ثالثا: مطلب الإصلاح الجدي.. الملكية البرلمانية نموذجا
ممارسةُ مطلب الإصلاح الجدِّي لأُسُس وأطُر العمل السياسي ليست حكرا على فضاءٍ وآلياتٍ تُتيحها المؤسسات الرسمية، خاصة إذا كانت قواعد اللعبة لا تتيح المساحات الكافية للضغط وانتزاع المكاسب. إذ لا شك أن مطالب الإصلاح التي تتجاوز السقف السياسي الرسمي في ظل النظم المغلقة لا يمكن رفعها وفرضها بالتزام القواعد الدستورية المستقرة والتقوقع في البُنَى السياسية الموجودة، بل إن فاعليتها تكون أكبر وأثرها أقوى حينما تُخاض معركتها من داخل المجتمع المدني والسياسي، وباعتماد آليات التدافع المدني السلمي غير العنيف. كان بإمكان الإسلاميين الطامحين للمشاركة الانتخابية، وغيرهم من قوى اليسار والشخصيات المستقلة الحقوقية والإعلامية والمدنية، أن يَتجمَّعوا حول هذا المطلب، ويُدافعوا عنه، ويُقنعوا به، ويَحشدوا له الرأي العام، ويُؤسِّسوا له سياسيا وشرعيا وفكريا وحركيا، غير أن إسلاميي المشاركة تسرَّعوا بقبول شروط لعبة مجحفة ضمن إطار سياسي لا يتيح إمكانية الإصلاح والتغيير، فما كانت النتائج إلا حصيلة متوقعة لنظام حكم قُوبلت مركزيته الشديدة لشلسلطة بإضفاء مزيد من الشرعية على حكمه.
مصدر الخبر : أون إسلام a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=11072&t=هل أخطأ "العدالة والتنمية" بمشاركته السياسية في المغرب؟ &src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"