"وجنى الجنتين دان".. نورك ملأ قلبي حبيبتي الصغيرة نور الدين العويديدي قبل يومين.. وما يومان في العمر بكثير، نورت بيتي شمعة مضيئة وقمر منير، وعطرتها زهرة فواحة, أضافت إلى حياتي بهاء وألقا وجمالا.. إنه حدث سعيد عظيم جميل جلل، كله رقة وروعة وبهاء وجلال، إلا ما فيه من سهر موصول، ونوم مقطع محطم كنوم فرخ حمام يخشى كواسر الطير، لكنه لذيذ رغم ما فيه من تعب ونصب، كأن الحياة إنما تؤتينا شيئا، وتأخذ منا بديلا عنه شيئا.. ولكن ما أعطتنيه أجمل وأروع من كل ما أخذت مني.. فلتأخذ النوم كما تشاء. أقام الله عز وجل نظام الوجود وميزانه على الخير والشر، وجعل الحياة تقدمهما لنا مخلوط أحدهما بالآخر، فما من شر إلا ويخالطه شيء من خير، وما من خير إلا وفيه بعض شر، فالله قد جعل حياتنا كدحا إليه، ومزج ماءها وتربها بالعناء، لأنه قد علم في علمه الأزلي أن "الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"، فجعل له منغصات تحول بينه وبين الاستغناء المهلك إذ يؤدي إلى الطغيان، وتذكره أن ما من شيء خالص للخير والسعادة إلا رضا الله وجنات النعيم. فالحمد لله أن نور بيتي بطفلة حلوة عذبة كالسكر، جميلة كالورد، رائقة كالري بعد الضمأ، والحمد لله على سلامة أمها، والحمد لله أن تقبلها إخوتها قبولا طيبا حسنا.. وقد أسميناها جنى، أخذنا اسمها من قوله تعالى {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}. وإني لأسأل الله لها ولجيلها سعادة الدارين، والنصر والتمكين، وأن تعيش حياتها لأمتها أكثر من أن تعيشها لنفسها.. ورحم الله فارس الكلمة الشهيد سيد قطب إذ يلامس معنى بديعا حين يقول "إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية"، لأن الحياة، كما يضيف سيد الحكيم الشهيد، "ليست شيئا آخر غير شعور الإنسان بالحياة.. فجرد أي إنسان من الشعور بحياته تجرده من الحياة ذاتها في معناها الحقيقي، ومتى أحس الإنسان شعورآ مضاعفا بحياته، فقد عاش حياة مضاعفة فعلا". وشاعر الخضراء أبي القاسم الشابي يقول: عش بالشعور وللشعور فإنما دنياك كون عواطف وشعور وإني لأرجو لأبنتي وسائر أبنائي وكل الناس ومعهم نفسي أن يعيشوا سعداء، وأن يشعروا بهذه السعادة، وأن يروها مجسدة شجرة وارفة الظلال تظلهم جميعا، وأن يلقوا الله أتقياء أنقياء، يدخلون الدنيا ويخرجون منها بقلب سليم، وضمير مرتاح، وحصاد خير، حتى يكونوا ممن قال الله فيهم {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}. جنى هي الرابعة من أبنائي.. كلهم جاؤوا في زمن التهجير والاغتراب.. ثمار حلوة، وزهور مفتحة باسقة، نحاول أن ننسى بها وحشة الفراق ومرارة التهجير وما نكاد. فقبل عقدين وشهرين ويومين بالتمام، من هذا اليوم العاشر من ديسمبر 2010، خرجت وحيدا طريدا شريدا، ومثلي مئات من رفاق الدرب الطويل. وفي الغربة بدل الله الوضع من حال إلى حال، فقد نبت لنا فيها أهل وأبناء. دعوناهم فوقفوا كالحلم الجميل أمامي. لقد جعل الله البنين مع المال من زينة الحياة الدنيا. والحمد له وحده حق الحمد، وله الشكر كل الشكر، أن رزقني منهما معا ما تحتاجه يدي حلالا، وأن يملأ قلبي سعادة.. لكنها سعادة تظل منقوصة وأنا أرى أبنائي يكبرون أمام عيني منفيين مثلي، وأي نفي.. إنه النفي الذي تفقد فيه المعاني مضامينها، والدالات مدلولاتها، فلا وطن لهم كما كان لي في أعمارهم وطن.. ولا شوق لهم لأرض محددة ووطن، كما لي للخضراء شوق وحنين كثيرا ما تترجمه الدموع وتكشف ستره الآهات والغصص، وأخشى أن لا تكون لهم قضية، كما كان لي في عمر أكبرهم قضية وهمّ. ربما يكون أبنائي مواطنين عالميين، وما كنت يوما كذلك، ولعلي أبدا لن أكون. فأمهم من بلد وأبيهم من بلد وجواز السفر الذي يتنقلون به من بلد، وفي بلد رابع يعيشون.. يتنقلون بين القارات والبلاد، يسعون خلف أبيهم الباحث عن مستقر لا يكاد يجده حتى يحن إلى الرحيل، فأفقدهم كثرة الترحال معنى الوطن ومعنى المستقر. وإذ ينشؤون على هذا الوضع فإنهم يعتادونه.. أما أنا فأسير للحظة الميلاد وما أجمله وأشقاه من أسر. أقول أحيانا في نفسي في حوار داخلي متكرر كثيرا ما يراودني دون أن يكف أو يمل: أفق من غفلتك أيها الغر، الذي لا يكبر ولا يتعلم، فالعالم قد تغير، والدنيا ليست ما عرفته منها يوما وما نشأت عليه، والمسلم كالغيث حيث ما حل نفع، ولا وطن للمرء إلا حيث يعيش موفور الكرامة والاحترام. فما الذي يدعوك للحسرة والهمّ، أيها الكهل الذي غادرك الشباب وأنت لم تستمتع به إلا قليلا، فالبلد الذي طردك، واستغنى عنك، وحرمك من خيره، وأبعد الله عنك شره، ما الداعي لتعلقك به، تفتأ تذكره متحسرا حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين؟ هذا حديث النفس حين تشف عن بشريتي ويمور بعد ثواني.. هذا حديث الوجع وثمرة الأحزان، ينقضه حديث آخر فحواه أن المرء لا قيمة له خارج وطنه، وأن يوما في خدمة الوطن خير من عمر كامل في خدمة غيره، كالماء تسكبه في الصحراء، لا الماء يبقى ولا الصحراء ترتوي.. والفكر يتقلب بين الضدين لا يستقر على حال.. هذه جروح النفس يحييها مقدم ابنتي جنى، وهي جروح لم تندمل يوما، ولم تكف عن النزف والسيلان.. جروح خلفها عقدان وشهران ويومان من الغربة والوحشة والفراق والشوق المقيم.. جروح أوشكت أن تندمل ثم نكأت، ثم أوشكت أن تندمل ونكأت من جديد..
هي جروح أرجو أن لا تعرفها جنى ولا إخوتها، وأن يكون الغد خير من الأمس واليوم.. وأن تكون خاتمة العمر ومغامرة الوجود: {فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ}.. مرحبا بك بيننا يا جنى العمر.. حللت يا ابنتي الحبيبة أهلا، ونزلت بيننا منزلا سهلا. مصدر الخبر : بريد الحوار نت a href="http://www.facebook.com/sharer.php?u=http://alhiwar.net/ShowNews.php?Tnd=12147&t="وجنى الجنتين دان".. نورك ملأ قلبي حبيبتي الصغيرة&src=sp" onclick="NewWindow(this.href,'name','600','400','no');return false"