اليمين الفرنسي يتخذ مسلميها وقودا لمعاركه السياسية
علي بوراوي باريس – إسلام أون لاين
شهدت فرنسا خلال الأسبوعين الماضيين موجة عنيفة من العداء للإسلام، شنّها تياران سياسيان من اليمين المتطرّف هما "الجبهة الوطنية" و"كتلة الهوية"، في إطار البحث عن أنصار، والهجوم على خصومهم السياسيين في البلاد.
فقد شبّهت مارين لوبان، ابنة زعيم "الجبهة الوطنية" أداء المسلمين الصلاة في الشوارع (عندما تضيق بهم مساجدهم في صلاة الجمعة والعيدين)، بالإستعمار النازي لفرنسا خلال الحرب العالمية الثانية. بعد ذلك بأسبوع واحد، نظّمت "كتلة الهوية" اليمينية المتطرّفة، التي يرأسها فابريس روبير، تجمّعا في الدائرة الثانية عشرة بباريس، للتّحذير ممّا أسموه "الخطر الإسلامي الزاحف على أوربا". وبقدر ما تجاهل الساسة الفرنسيون، من أحزاب اليمين واليسار والوسط، وكذلك وسائل الإعلام، نداء "كتلة الهوية"، بقدر ما اهتمّوا بتصريحات مارين لوبان، ردّا وتحليلا. فلماذا اختار هؤلاء معاداة الإسلام ومعتنقيه، في خوض معركتهم السياسية الحالية؟ ولماذا تجنّدت معظم الأحزاب السياسية، والمثقفون، ووسائل الإعلام، للردّ على تصريحات مارين لوبان دون غيرها؟ وهل يمكن أن تكون لهذا العنف الخَطابي والسياسي، امتدادات وآثار سلبية على مسلمي فرنسا؟ استعداء الإسلام
قالت مارين لوبان، في تجمّع نظّمه حزبها اليميني المتطرّف "الجبهة الوطنية" في مدينة "ليون" الجمعة 10 ديسمبر2010، محذّرة مما اعتبرته وضعا يوازي الإستعمار النازي لفرنسا "جاء الحجاب منذ خمسة عشر عاما، وأصبح يتكاثر شيئا فشيئا. ثم جاء النّقاب، وكثر شيئا فشيئا. ثم أصبحت الصلاة تؤدى في الشارع العام. هناك حاليا ما بين عشرة وخمسة عشر مكانا عاما، يحتكره المسلمون لأداء الصلاة بصورة منتظمة. أنا آسفة، ولكن بالنسبة للذين يفضّلون الحديث عن الحرب العالمية الثانية، فإننا إزاء حالة احتلال. إنه احتلال أرض، واحتلال أحياء تطبّق فيها القوانين الدينية. إنّه احتلال. بالتأكيد لا توجد دروع، ولا يوجد جنود، ولكنه احتلال يؤثّر على السكان".
كما وصفت أحزاب "الإتحاد من أجل حركة شعبية" (حزب الرئيس ساركوزي)، والحزب الإشتراكي المعارض، وحزب الخضر، بحفّاري قبر الجمهورية، وذلك إشارة إلى تسامح هؤلاء مع المسلمين.
جاء ذلك، في إطار التنافس على رئاسة حزب "الجبهة الوطنية" الذي أسّسه جان ماري لوبان سنة 1972، واحتفظ بمنصب الرّجل الأوّل فيه إلى اليوم، وتجتهد ابنته في وراثته فيه. فهي تتولّى حاليا وظيفة الشخصية الثانية في الحزب، والناطقة الرسمية باسمه. وقرّر والدها (78 عاما)، التخلي عن وظيفته لتقدّمه في السّنّ. وقد بدأ أعضاء الحزب فعليا في انتخاب زعيم جديد، سيعلن عنه يوم 13 يناير المقبل، في مؤتمر الحزب العام.
وفي يوم السبت (18 ديسمبر)، أي بعد تصريحات مارين لوبان بأسبوع واحد، نظّمت "كتلة الهوية" اليمينية المتطرّفة، تجمّعا للإحتجاج على ما أسمته "خطر الإسلام الزاحف على أوربا". ودعت له أحزاب وتيارات اليمين المتطرّف من مختلف أنحاء أوروبا وأمريكا.
حضر هذا التّجمّع نحو ثمانمائة شخص حسب ما تحدّث به المنظّمون، ويقول محايدون إنّهم لم يتجاوزا الستمائة شخص، وتداولوا على الكلمة، وشدّدوا على خطورة الوجود الإسلامي في أوربا، وضرورة التّصدّي له.
فقد قال فابريس روبير، رئيس "كتلة الهوية"، في الكلمة التي ألقاها في التجمّع "رسالتنا هي أن نظهر أنّ الإسلام يمثّل خطرا على العلمانية، وعلى قيم الحضارة الأوربية". وأضاف "المشكلة في فرنسا، ليس في قلّة عدد المساجد، ولكن في كثرة عدد المسلمين". وقال توم ترينتو، الذي قدِم من الولاياتالمتحدةالأمريكية للمشاركة في التّجمّع "إنّ خطر الإسلام السياسي يتجاوز الخطر الذي مثّله هتلر". أمّا أوسكار فرايزنكر، زعيم اليمين السويسري المتطرّف، الذي نشط في بلاده لمنع المآذن، فقد استقبله المشاركون استقبال الأبطال، وقال في كلمته "بينما نحن لا نفكّر إلاّ في التقاعد (المعاش)، وفي عطلنا، وفي تأميناتنا، فإنّ العالم الإسلامي ينتج أسلحة من المقاومين. رجال ونساء مستعدّون للتضحية بحياتهم، ليكونوا قنابل بشرية". وبعد أن اتهم الكنيسة بخيانة كلام المسيح والإنجيل، قال إنّ الحرب المقدّسة في الإسلام، تكون بقطع الأيدي وتطبيق الحدود.
وكان منظّمو التجمّع قد نشروا بيانا يوم 17 ديسمبر، شنّوا فيه هجوما عنيفا على معارضيهم، ووصفوهم بالفاشيين. وقال البيان إنّ الإسلاميين "يحلمون بفرض الإسلام وشريعته على الفرنسيين". كما تهجّم بشدّة على عمدة باريس وأحزاب اليسار، و "حزب الإتحاد من أجل حركة شعبية" الحاكم. ودعا المنظمون أنصارهم إلى المشاركة بكثافة في التجمّع لإنجاحه، وقالوا في البيان: يجب أن تمتلئ القاعة بالمشاركين، فلا تخافوا شيئا. نحن مازلنا في بلد ديمقراطي، حيث سيكون المشاركون محميين خارج القاعة بقوات الشرطة، وداخل القاعة بلجنة نظام ذات كفاءة واختصاص". وأضاف البيان: سيسمح يوم 18 ديسمبر للحركة التي بدأت تأخذ مكانها، أن تدخل مرحلة جديدة، لن تُنسى، فلا تفوّتوا الفرصة".
وقفة احتجاجية
معارضو هذا التجمّع، بداية من حزب الرئيس ساركوزي، والحزب الإشتراكي المعارض، وحزب الخضر، ومنظمات حقوق الإنسان، ومناهضو العنصرية والإسلاموفوبيا، والمنظمات اليهودية، ومعظم وسائل الإعلام، جنحوا إلى تجاهله، وعدم النّفخ فيه، بعد أن سجّلوا موقفهم منه بوضوح. برتران دولانوي، القيادي في الحزب الإشتراكي المعارض، الذي يشغل منصب عمدة باريس، طالب محافظ الأمن في باريس ميشال قودان بمنع عقد التجمّع. ودعاه في رسالة وجهها إليه "إلى أخذ جميع الإجراءات الضرورية ... لمنع عقد التجمّع". وأضاف أنّ مثل هذا النشاط "لا علاقة له البتّة بالعلمانية، ولكن الأفكار التي يروّج لها منظّموه، تحمل خطابا حاقدا ومعاديا لجزء من مواطنينا، بدعوى عقيدتهم الدينية".
كما نظّم المعارضون وقفة احتجاجية، قريبا من القاعة التي احتضنت التجمّع، قرّروا منذ البداية أن تكون رمزية، لتسجيل احتجاجهم، والتنديد بمنظّمي التجمّع والمشاركين فيه. وقد شارك في الوقفة شخصيات من مختلف فصائل اليسار الفرنسي، وممثلو جمعيات حقوقية وإنسانية، رفعوا فيها شعارات تندّد بالفاشية. وقالت النائبة البرلمانية عن الحزب الإشتراكي الفرنسي في باريس، صندرين ميزاتي "إنّ العلمانية لا تعني الحقد، ولا اضطهاد الأغلبية للأقلية".
أمّا الهيئات والجمعيات الإسلامية، فقد اختارت متابعة التطوّرات بصمت. ورغم أنّها نسّقت مع معارضي التجمّع، إلاّ أنّ رموزها تجنّبوا الخوض فيه علنا، ورفضوا الإدلاء بتصريحات بشأنه. لكنّهم ردّوا بشدّة على تصريحات الزعيمة المرتقبة لحزب "الجبهة الوطنية" مارين لوبان، وذكّروها بدماء المسلمين التي سالت دفاعا عن فرنسا في معركة تحريرها من الإستعمار النّازي. مخاوف السياسيين
أجمع السياسيون والمحلّلون الفرنسيون، أنّ تحرّكات اليمين المتطرّف هذه، ليست سوى فصل من فصول بحثه عن موقع له في الخريطة الحزبية والسياسية للبلاد، في إطار الإستعداد لرئاسيات 2012. فقد دأبت "الجبهة الوطنية" على التقدم بمرشّح لها منذ العام 1974. وقد تمكّن زعيمها من تحقيق المفاجأة في انتخابات 2002 ، والترشح للدورة الثانية، ونال فيها 14 بالمائة من أصوات الناخبين الفرنسيين. ثم جاءت الأزمة الإقتصادية وأخطاء الرئيس ساركوزي خلال السنوات الأخيرة، فأغرت قيادة هذا الحزب بإمكانية التسلّل إلى الناخبين، وانتزاع نسبة مهمّة منهم، خصوصا وأنّ أحزاب اليمين المتطرّف، شهدت خلال السنوات الأخيرة صعودا ملفتا في عدد من الدول الأوربية.
ويرى عدد غير قليل من المحلّلين الفرنسيين، أنّ استعمال اليمين المتطرّف الإسلام لتخويف الفرنسيين، ومزاحمة الأحزاب العريقة على أنصارها، ليست سوى خطّة هجومية لاستفزاز خصومها السياسيين وإرباكهم، والظهور أمام الرأي العام الفرنسي في مظهر البطل القادر على حماية مصالحه. ولا يشكّ أحد، في أنّ حزب لوبان، يراهن على اقتحام جمهور حزب "الإتحاد من أجل حركة شعبية" الحاكم، وجرّهم إلى شباكه. لذلك، يعمل له الرئيس ساركوزي ورفاقه، كلّ حساب، ويعتبرون معركتهم معه، من أهمّ المعارك التي تنتظرهم في طريق الإعداد للإنتخابات الرئاسية القادمة.
وقد اجتمع رئيس الحكومة فرانسوا فايون، يوم 14 ديسمبر الجاري، بنواب حزبه في البرلمان، ودعاهم إلى العمل بجدّ، لإفشال خطة حزب "الجبهة الشعبية" وبذل كل الجهود خلال الثمانية عشر شهرا التي مازالت تفصل البلاد عن الرئاسيات المقبلة، لربح المعركة، مؤكّدا على أهمية التعامل مع المستجدات، بدم بارد. وشدّد على أهمية وحدة الحزب، وانسجام رجاله. أمّا الحزب الإشتراكي، فقد اعتبرت سيغولان روايال، مرشحة الرئاسيات السابقة، أنّ الفشل السياسي لساركوزي وسوء تعامله مع مختلف القضايا الفرنسية، يوفّر لهذا اليمين أرضية خصبة للإنتعاش.
من جهة أخرى، قال المفكّر الفرنسي جان بوبيرو، المتخصّص في تاريخ العلمانية وفكرها "إنّ العلمانية التي انتمت تاريخيا إلى اليسار، أصبحت اليوم مفهوما يستعمله اليمين، بل اليمين المتطرّف. وأضاف "لا يمكن أن نفهم هذا التطوّر، إلاّ بالإسلاموفوبيا، أي التخويف من الإسلام. فقد كان الكاثوليكيون والكاثوليكيون المغالون، يستعملون العلمانية لمعارضة دين آخر. وعندما يجد أشخاص من اليسار أنفسهم في نفس الجبهة مع هؤلاء، فإنّ ذلك يعني جهلا للعلمانية، التي ليس من طبيعتها أن تفرض شيئا، بل حماية الحريات: حرية الوعي والتدين".
حجم اليمين الفرنسي المتطرّف
يؤكّد الجميع في فرنسا، أنّ المنتسبين لحركات اليمين الفرنسي المتطرّف، قليلو العدد، وأنّهم لا يمثّلون في الظّرف الحالي، أيّ تهديد جدّي. فحزب "الجبهة الوطنية" الذي يشارك في الإنتخابات الرئاسية منذ ستة وثلاثين عاما، يتألف من واحدا وثلاثين ألف (31 ألف) من جملة 63 مليون ساكن، حسب ما صرّح به رئيسه جان ماري لوبان. وقد شكّكت صحيفة "لوفيغارو" في هذا الرقم، وقالت إنّه غير مؤكّد، أي أقلّ من ذلك.
أمّا "كتلة الهوية"، فقد أسّسها فابريس روبير في أبريل 2003 ، عندما اختلف مع جان ماري لوبان، فانشقّ عن "الجبهة الوطنية". وهي تضم حاليا ألفي منخرط (2000) حسب ما يؤكّده المختصون الفرنسيون. وهي بذلك لا تتوفّر على قدرة للتأثير على النّاخبين. ووجودها قد يكون مفيدا، نظرا لخلافاتها الحادة مع حزب "الجبهة الوطنية". لذلك، يرى الساسة الفرنسيون أنّها لا تمثّل أيّ تهديد سياسي أو أيديولوجي على المستوى القريب.
هذا هو الحجم البشري لكلا التنظيمين الذين شغلا السياسيين ووسائل الإعلام. لكنّهما نشطين. والمخاوف التي يبديها خصومهم تجاههما، لا تعود لإقبال الفرنسيين على برامجهما وتنظيماتهما حاليا، ولكن للخلافات التي تشقّ كلا من حزب الرئيس ساركوزي، والحزب الإشتراكي المعارض، والتي يمكن أن تؤثّر على سير ونتائج الإنتخابات الرئاسية المقبلة. كما أنّ تأثيرات الأزمة الإقتصادية على مستوى معيشة الفرنسيين، قد تفتح شهية نسبة غير قليلة منهم، إلى البحث عن بديل جديد، وربما تنجح سياسة اليمين المتطرّف هذه، في دفعهم إلى محاولة اكتشافه، وربّما حتّى المغامرة بتجربته.
رب ضارة نافعة
الأحزاب السياسية ووسائل الإعلام، حاولت من جانب آخر، التساؤل عن أسباب لجوء المسلمين إلى أداء الصّلاة في الشوارع العامة المحاذية للمساجد، عندما تعجز هذه المساجد عن استيعابهم. وأقرّت بأنّ المساجد الموجودة حاليا في فرنسا، لا يمكن أن تتّسع لهم، ليؤدّوا الصلاة داخلها.
ودعا بونوا هامون، الناطق الرسمي باسم الحزب الإشتراكي الفرنسي، في حوار أجرته معه قناة إخبارية فرنسية، إلى ضرورة البحث عن حلّ لمشكلة قلّة المساجد وضيقها، يمكّن المسلمين من أداء الصّلاة داخلها، معتبرا أنّ الصلاة في الشوارع لا تليق ببلد كفرنسا.
القناة الفرنسية الثانية، أعدّت تحقيقا أكّدت فيه أنّ المساجد المتوفّرة، ومساحاتها، لا يمكنها أن تتسع لمن يؤمّها، وأنّها دون الوفاء بحاجة هذا العدد من المسلمين، خصوصا وأنّهم معروفون بحرصهم على أداء شعائرهم الدينية. وقد أجاب أحد المسلمين الأفارقة على سؤال وجّهته له القناة بالقول: هل تظنّون أنّنا نتلذّذ ونتباهي بالصّلاة في العراء، يلفح أجسادنا البرد والثلوج؟ إنّنا ببساطة لا نجد مكانا نصلّي فيه داخل المساجد".
هكذا تفاعل الفرنسيون مع هذا الهجوم اليميني المتطرّف. لكنّ ذلك ليس سوى معركة في إطار الإعداد للإنتخابات الرئاسية المقبلة. ويمكن أن يتخذ هذا التنافس صورا أخرى، وإخراجا مختلفا عن هذا الشّكل. لكنّ المُعادين للوجود الإسلامي في فرنسا، وفي الغرب عموما، سيظلّون يبحثون عن قضايا، يستفزّون من خلالها مشاعر المسلمين، ويبتزّون فيها الرأي العام في بلدانهم. وهذا ما عبّر عنه الموقع الإخباري الفرنسي الشهير "ميديا بارت"، عندما شبّه الإستفزازات الأخيرة التي قام بها اليمين المتطرّف، بقطعة القماش الحمراء، التي يلوّح بها المصارعون المحترفون، لاستفزاز الثيران الهائجة.
لقد انضمّ اليمين الفرنسي المتطرّف، إلى نظرائه الأوربيين، في تصويب سهامهم للإسلام والمسلمين في أوربا، واتخاذهم وقودا لمعاركهم السياسية، لأنّ المسلمين يمثّلون الحلقة الأضعف في هذه البلدان. فهم حاضرون في مختلف الدول الأوروبية بكثافة عددية هامة، ولكن ظهورهم عارية، وثقلهم السياسي والإقتصادي ضعيف. وسيظّلون على هذا الضعف إلى أن تدفعهم المحن دفعا، إلى تفعيل دورهم بشكل إيجابي. لأنّ الحياة السياسية ليست عملا خيريا يقوم على الصّدقات. ومعضلة المسلمين اليوم، في أوربا، كما في خارجها، أنّ جانبا مهما من وجودهم ووعيهم، قائم على انتظار صدقات السياسيين.