خطاب مفتوح إلى مواطن حاضر... غائب 24 أكتوبر هذا الخطاب هو عبارة عن مشروع نقدي يحاول أن يتوجه إلى الإنسان المحايد واللامبالي أمام الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية. هي محاولة نقد، من الداخل، لحياتنا التي تسير باسم القدر واللامبالاة والتفرّج. كما أنه ليس خطابا موجها إلى ابن الشعب البسيط، المهمش، فقط بل يطال المثقفين أساسا. لذا ليس هناك بريء ومتهم بل هناك واقع معاش، هناك عمل ميداني مجدي وفعال ومشاركة في مدار الذات والموضوع أي الدخول في الصراع بين الأنا وتوازنها الداخلي وبين هذه الأنا والسلطة بما هي آلة قمع واستبداد واستلاب للكرامة. لذا فإن إصبع الاتهام ستوجه بالأساس إلى السلطة: سلطة الدولة الفاشية، سلطة القضاء والقدر، سلطة الأحزاب والمنظمات البيروقراطية. ولأن السلطة في تونس، سلطة نهب وقمع، والدولة في أعلى مستوياتها دولة لصوص ونهّابين، دولة بوليسية بالأساس، نريد أن نسأل المواطن العادي، المحايد سياسيا والذي يضع نفسه دائما خارج الصراع السياسي والاجتماعي، عن مدى وضعه المحايد؟ نريد أن نسأل الأستاذ والطبيب والمعلم والأديب والفنان، والتاجر والعامل والفلاح... غير المنخرط في المنظمات أو النقابات عن مدى مسؤوليته عما يجري اليوم أمام عينه من خراب وفساد وقمع ومحاصرة وجوع وبطالة وغلاء وانهيار في بناء هذا الوطن؟ من السهل على أي مواطن تونسي تقسيم المجتمع إلى دولة قمع واستبداد ضد جماهير مستلبة وشعب منهوب تحكمه دولة فاشية بنعلينية فاسدة وتابعة، لكن وقبل كل شيء علينا أن ندرك أن هذا التقسيم يهمل الدور السلبي للمواطن العادي المساهم بوعي منه أو دون وعي في ترسيخ سلطة هذه الدولة واستمرار قمعها بل وممارسة ساديتها على الشعب. صحيح أنه بالنظر إلى حياة المواطن العادي اليوم الذي يعاني الفقر والتهميش وغلاء المعيشة... فإن اتخاذه موقف محايد لن يشفع له ولن يعطيه صك براءة مطلقة. فهو مسؤول في إطار وعيه الضائع أو المضيّع. فعندما يقول المواطن:" امش الحيط الحيط.." أو "اليد الي ما تنجمّش تعضها، بوسها وادعيلها بالكسر". ويقول:"شد مشومك لا يجيك ما أشوم...". هذه هي فلسفة جزء من المواطنين التونسيين الذين اختاروا الهروب بجلدهم خوفا على حياتهم وعلى أرزاقهم. وهذا النوع من المواطنين يعيش على الهامش بهدوء وقناعة واستسلام مطلق قدري. يطلب المغفرة في صحوه ومنامه، ينصاع لطاعة أولي الأمر و"شوف وشوف". وهو شديد التمسك بالمثل القائل:" يجيك البلاء يا غافل"، لذلك فهو "شديد الحرص" على عدم "الغفلة" حتى لا يأتيه البلاء من حيث لا يدري. ناسيا صوت الأجداد الصارخ بالخليفة:" والله لو وجدنا فيك اعوجاجا لقوّمناه بحدّ سيوفنا". هذا النوع من الناس نجده غالبا مسالما حدّ السذاجة التي تقترب من الانتهازية (تدبير الراس) ولديه إيمان راسخ بأن الرفض والسير ضد التيار لا يؤديان إلا إلى الخصاصة والسجن... وهو متمسك بالوصايا العشر ولا همّ له سوى تربية أبنائه على طاعة الوالدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... وعندما يعود مساء بعد يوم عمل شاق يستلقي شارد الذهن وهو يفكر في كيفية تأمين قوت عياله وتلبية طلباتهم... يتناول عشاءه ويفتح التلفاز لمشاهدة ما ينسيه مشاكله... ثم ينام... نهار من العمل اللامجدي والاستلاب وليل من الحذر التافه يتذوق فيهما المواطن "عذوبة" حياده. هذا هو المواطن الهارب إلى برّ الأمان الشخصي، كما يتوهّم، ينزع إلى تبرئة ذمّته بالتهميش والكثير من الصمت. أما الوطن فيتمزق أشلاء ويبكي بحرقة أبناءه. عدنان الحاجي وبشير العبيدي وهارون الحليمي وغيرهم لم يرفعوا الرايات البيضاء كما شاءت لهم الدكتاتورية بل في محاكمتهم رفعنا شعارات النصر، رفعنا الصرخة المختبئة في أعماق القلوب المعتمة: نعم لن نموت، لن نهزم، ولن نركع رغم الظلام وقهر الطغاة... سوف نحيا... سوف نحيا...". هم أبطال هذا الوطن الجريح وأحفاد فرحات حشاد ونبيل البركاتي والفاضل ساسي... لم ينسوا يوما دماءهم التي سالت على تراب تونس. هم الذين صرخوا رغم الرصاص لا رحمة لسالبي الأرض تحت أقدامنا، ولا رحمة للذين جوّعونا وشرّدونا في طول البلاد وعرضها... أما الذين تخلوا عنا ونحن في المحنة المظلمة فالتاريخ يحاسبهم. هم الآن في السجون. الاقتصاد ينهار. الثقافة الاستهلاكية والسطحية تسود. إعلام السلطة وأبواقها ينثران الأكاذيب كالأوراق الملونة في الحفلات والمهرجانات. ودماء الحفناوي تسطع في كل شارع. والأحزاب المعارضة تواصل تكتيكها، تغوص في الوحل من أجل مقعد في البرلمان ونصيبها من 25 بالمائة، والفاشية تقرع طبولها وتكسر كل الأبواب لتلجم كل صوت خرج من رحم هذا الوطن ينادي بالحرية والكرامة الوطنية. ومع ذلك فالمواطن المحايد لا يصرخ... مواطن ال...،99 % يصمت ! ولسان حاله يقول:" آش دخلني أنا... أخطا راسي واضرب". الخوف والرعب والاستيلاب... أجل إنه كذلك... اليأس من الانتهازيين والمثقفين المرتزقة... هذا الأمر أيضا... عدم الثقة بالثوريين وقدرتهم على الفعل... وهو كذلك أيضا... لكن ألا يبدو هذا الصمت ذليلا أكثر مما ينبغي. وهذا الموقف السلبي على هذه المهزلة والمسرحية الفاشلة التي مللنا مشاهدتها ولعب دور المتفرج فيها طيلة 22 سنة، ألا يدخل هذا في مدار الانتهازية والتواطؤ. "إن شعبا لا يعرف كيف يصرخ يستحق أن يستعبد ويهان حتى يصرخ". فيا أيها المواطن الطيب والمحايد عند وقوفك أمام محكمة التاريخ لا تقل:" هم الذين نفوني في وطني وأبعدوني". بل قل:" أنا نفيت نفسي وابعدتها عن المصائب والمتاعب التي توجع القلب وتصدع الرأس". فأنت بقيت صامتا عندما نزل غيرك إلى الشارع، عندما جاع وفقد الأمان. ففضح المرتشين ولصوص الدولة والمخبرين والعائلات الحاكمة، هؤلاء الذين ينهبون الوطن... يا رب استر... والله لا شفت ولا سمعت... لكن الانتخابات تزوّر وستزوّر أمامك، والسلطة تفرض لوائحها الرسمية... أنت تصمت... الغلاء يتفاقم وأزمات السكن والبطالة والمحسوبية والتهميش... والمواطن الصالح، مواطن الأمان والهدوء والستر والتواطؤ يواصل دفع الضرائب للدولة ويقوم بواجباته ومسؤولياته، ولا ينطق بحرف ضد الدولة المتخلية عن مسؤولياتها، الدولة التي وضعت القانون والدستور خِرَقا بالية تحت أقدام بن علي ووزارة الداخلية والرأسمالية الناهبة. هكذا بالصمت والخوف والحياد والهروب الشخصي من المواجهة تقوى الدولة الفاشية، دولة الرعايا لا دولة المواطنين. تقوى بنا علينا نحن رعاياها الذين شللنا وأصبحنا كالدمى أو كبيادق الشطرنج نتحرك بإرادة وقوة وبطش السلطة التي صنعناها حين صمتنا عن شنائعها