تونس.. ( كرسي في الكلوب )! بقلم : سليم عزوز (كاتب وصحفي مصري ) .. في الأفراح القديمة، وعندما كان العوازل يريدون إفساد فرح لخصم، فانهم كانوا يستأجرون من يقوم بضرب كرسي في الكلوب ، وأحيانا يقومون بهذه المهمة بأنفسهم. وهو ما حدث في الانتخابات التونسية. الدراما المصرية، جعلت من عامية المصريين، أمراً مفهموما، وبالتالي فليس هناك ناطق بلغة الضاد، يحتاج إلي مذكرة تفسيرية لما سلف ذكره، مثل الكلوب ، و العوازل ، والذين يقال لإغاظتهم: يا عوازل فلفلوا ، وهناك أغنية شهيرة لخالد الذكر فريد الأطرش تحمل هذا الاسم، ويوجد فيلم يحمل اسم كرسي في الكلوب تم إنتاجه قبل بضع سنين.. لذا وجب التنويه. تونس شهدت يوم الأحد الماضي انتخابات رئاسية وتشريعية، وقبل إجراء الانتخابات أعلن العوازل أنها انتخابات مزورة سلفا، وعقب إعلان النتيجة وفوز الرئيس زين العابدين بن علي قالوا بفخر ألم نقل إنها مزورة؟!.. وكأن ما أعلنوه هو سبق إعلامي بامتياز، وكأنهم كانوا يطلعون علي الغيب!. لم تكن هذه هي الانتخابات الرئاسية التعددية الأولي في تونس، فهي علي رأس الدول العربية التي أخذت بهذا النظام، تلتها اليمن، فمصر، لكن هناك بعض وسائل الإعلام قررت أن تفسد الفرح في اليوم الأول له، فلم تترك القوم يحتفلون بتجربتهم، وتم جلب من أقاموا مأتما وعويلا، ووصفوا ما سيجري بأنه حتما سيكون تمثيلية، وكأن الانتخابات النزيهة من شأنها أن تُسقط الرئيس بن علي، لينجح خصومه، مع أن كبيرهم سبق له أن خاض الانتخابات منافسا له من قبل، ولم يحالفه الحظ، ولم يقل إنه سقط بالتزوير، فقد أعجبتني روحه الرياضية، عندما أقر بأنه سقط بالإرادة الشعبية، وقد كان هذا درسا لي، فعندما سقطت في الانتخابات البرلمانية الأخيرة التي خضتها في مسقط رأسي بصعيد مصر اعترفت بأنني المعارض الوحيد في هذه الانتخابات الذي سقط بإرادة الجماهير!. لكن مثلنا الاعلي لم يخض الانتخابات هذه المرة، ومع هذا فقد أعلن أن حزبه سيقاطعها لأنها ستكون مزورة، لان شروط الترشيح لم تنطبق عليه وانطبقت علي رئيسة الحزب، ولم يكن في الواقع قد استيقظ من نومه ليجد النظام التونسي وقد انقلب من النقيض إلي النقيض، ومن نظام ديمقراطي عندما كان متحالفا معه إلي نظام مستبد عندما ناصبه العداء، ففي الواقع انه هو نفسه الذي تغير، والسبب في هذا راجع إلي دعاوي الإصلاح التي دغدغ بها الرئيس الأمريكي السابق بوش الابن مشاعر البعض في العواصم العربية، فظنوا انه سيساعدهم ليصلوا إلي السلطة.. ألم يقم من قبل بإسقاط النظام العراقي، وتنصيب نظام بديل التقط سواده الأعظم من علب الليل في لندن؟! بوش لم يكن جادا في ذلك، لكنه كان يبيع الهواء، والبعض من بني جلدتنا ركبوا الهواء، ولم يكن أمامهم إلا الاستمرار في الدور. ولا شك ان هناك من يعد موقفهم المعادي من أهل الحكم في تونس له مبرره، وهم جماعة النهضة وقائدهم الشيخ راشد الغنوشي، فقد انقلبوا عليه منذ السنوات الأولي لحكمه، ولم يكن هذا بسبب الاستبداد، أو لأنهم كانوا يطمعون في نظام ديمقراطي يصون الحريات، ويؤمن بتداول السلطة، فلو أخذ بن علي بفقه العنوشي، الذي يرفض تعدد السلطات واستقلالها لصار هو ظل الله في الأرض، فلا وجود من وجهة نظره - التي يراها حكم الدين - لهذا الاستقلال، لان الحاكم هو الذي يرأس هذه السلطات جميعها ويوجهها الوجهة الصحيحة.. دعك من أفكاره التي يعلنها الآن من لندن، فلو قرأنا هذه وتلك، لاكتشفنا انه يقول الشيء ونقيضه. لكنه هنا يقول وجهة نظره وهناك يقول ما يرضي الفرنجة، فيتعاملون معه علي انه الممثل الشرعي والوحيد لوسطية الإسلام. في بداية حكمه، سمح الرئيس بن علي لحركة النهضة - وكانت محظورة قانونا - ان تخوض الانتخابات، وان توقع علي الميثاق الوطني جنبا إلي جنب مع الأحزاب الشرعية، لكنها وجدت أن الطريق طويل، وأن صندوق الانتخاب لن يمكنها مما تريد فكان اللجوء إلي العنف والتفجيرات، علي النحو الذي جري في منطقة باب سويقة، ليعلم كل أناس مشربهم، ويقع الطلاق. ونجح بن علي في القضاء علي الفكر المتطرف، بمعالجة شاملة، راعت كل الأبعاد، ولم تقتصر المواجهة علي عصا السلطة. ولم تأت سنة 1996 إلا وأعلن أن بلاده طوت صفحة الإرهاب إلي الأبد، ولم ينسوا له ذلك فتم الرد عليه بالتشهير بحكمه في كل مكان، وقد نجحوا في تشويهه، وصارت المشاركة في ذلك من حسن إسلام المرء. منذ أيام قرأت مقالا للكاتب المرموق فهمي هويدي، خلاصته أن بن علي لم يقدم شيئا للشعب التونسي، فلا تنمية ولا ديمقراطية، ولا أي شيء، يظل هويدي موضوعيا إلي أن يذكر اسم تونس، فان الموضوعية تفارقه ويبدو متحاملا إلي أقصي درجة.. انه الغرض وقديما قيل إن الغرض مرض. بن علي انتصر لمشروع التعريب في مواجهة التيار الفرانكفوني، ورد الاعتبار للزيتونة الجامع والجامعة، وتوسع في بناء المساجد، حيث بلغ عدد المساجد في عهده ثلث ما تم بناؤه في البلاد منذ الفتح الإسلامي، وأطلق إذاعة للقرآن الكريم، وسمح بقناة تلفزيونيه خاصة للقرآن. لكن القوم لا يذكرون شيئا من هذا، ويرددون في كل مكان ان المصلين يدخلون المساجد في تونس بكروت ممغنطة، مع ان هذا ليس صحيحا، ومع ذلك لم يتوقفوا عن ترديده كما لو كان حقيقة لا يأتيها الباطل من أي اتجاه. لا بأس فتونس بلد محدود الإمكانيات، فكان الاستثمار في البشر، او فيما يعرف بالتنمية البشرية، واستطاع في ظل هذه الإمكانيات ان يستعيد لياقته الاقتصادية. وقد عمل الرئيس علي الاهتمام بمناطق الظل، فقدم نموذجا في التضامن الاجتماعي غير مسبوق فيما عرف بالصندوق 26-26، فجفف بذلك منابع الإرهاب، واهتم بالطبقة المتوسطة حتي صارت تمثل 90 في المئة من الشعب التونسي، وهي الطبقة التي تمثل عماد المجتمع، وأصبح أكثر من 80 في المئة من التونسيين يملكون بيوتهم، وقضي علي الهوة السحيقة بين الطبقات، التي تولد الحقد، وأولي رعاية خاصة بالنساء وكبار السن. لو شاهد هويدي تونس لاستولت عليه الدهشة، ولو تابع التجربة التونسية، لوقف علي ان بن علي ليس بحاجة إلي تزوير إرادة الناس لكي ينجح في الانتخابات. فالمرأة التي ينحاز لها المشروع التونسي، هل يعقل ان تتخلف عن التصويت لمن منحها كل هذا؟. لقد كان مشهد كبار السن بديعا، وكذلك المعاقين الذين جاءوا وهم يتكبدون المشقة ليردوا للرجل جميله. مستضعفة منهم جاء صاحب المنزل ليطردها فأرسلت إلي الرئيس فأنصفها، وحماها في شيخوختها من غدر الزمان وقد جاءت لتقول له نعم. لم يكن هناك ما يمنع الناس من ان يدلوا بأصواتهم، ولم يسيطر رجال الشرطة علي مقار الانتخابات، فقد جرت الانتخابات الرئاسية شفافة، كما جرت الانتخابات التشريعية، وقد صدر مرسوم رئاسي يرتفع بكوتة المعارضة في البرلمان إلي 25 في المئة.. حدث هذا ليلة الانتخاب ولم يلتفت القوم إلي نصف الكوب الملآن، وقد اجتمعت إرادة العوازل من أجل أن يضربوا كرسيا في الكلوب ليفسدوا الفرح.. إنه الغرض ياقراء. صحيفة الراية القطرية