بدأت ثورة تونس بمطالب سياسية كبرى من أجل تغيير تونس نحو الديمقراطية والحرية, ولكن كان الإخراج سيئا جدا ولا يرقى إلى طموح من سالت دمائهم, ولم يحقق سوى فتح الأفواه على مصراعيها لتقول ما كانت محرومة من قوله لأكثر من عشرين سنة على الأقل بعد رحيل الدكتاتور. فلم يتعطل الدستور ولا القوانين التي تحد من حرية المواطنين, ولم يحل مجلس الشعب ولا مجلس المستشارين, ولم يعلق عمل التجمع الدستوري العلني إلا بعد إن ثبت تورط أعضاءه في عمليات التخريب التي شهدتها البلاد ما بعد الثورة, وبقى أعضاءه طلقاء أحرارا. والذي يتمعن في المشهد التونسي يرى بكل وضوح بان هناك أياد خفية تحرك المسار السياسي إلى وجهة محددة تضمن للتجمع الدستوري حظوظا أكبر في الساحة السياسية القادمة, وهذه الأيادي لا تمثل سوى أصحاب الثورة المضادة التي تحاك سرا وعلنا على الشعب الذي قاد الثورة وأمام مرأى ومسمع القيادات السياسية التي تسمى معارضة وهي في حيرة من أمرها لغياب تمثيلها الشعبي الحقيقي, وهناك أحزاب لا يتعدى أعضاءها المائة عنصرا. وملامح الثورة المضادة انجلت منذ 14 يناير يوم رحيل الدكتاتور المخلوع, والعديد منها كان ظاهرا وما خفي أعظم. فمنذ اليوم الأول من رحيل المخلوع, حاول الوزير الأول الغنوشي بان يخدع الجميع, باستعماله للفصل 56 من الدستور واعتبار بان غياب الرئيس هو غياب مؤقت, والرئيس قد يعود في أي وقت, كما ظهر هذا الوزير مع عبد الله القلال رئيس مجلس المستشارين ووزير داخلية سابق, وهو مجرم معروف ومتهم بجرائم ضد الإنسانية وملاحق دوليا, وكان ظهورهم في التلفاز وكأنه إعلان حرب على التوانسة الذين هبوا جميعا للتصدي إلى هذه الخدعة. كما سعى الغنوشي للإبقاء على مجلس النواب ومجلس المستشارين, وهما بأغلبية ساحقة من التجمع, وكانوا يسنون القوانين ضد الشعب لإذلاله وتطويعه لبن علي وعائلته وللتجمع. وكان يتقاضى أعضاء مجلس النواب على ذلك 18 مليار شهريا. وقد نجح الغنوشي في ذلك بمعية رشيد عمار. كما ساهم الغنوشي وعمار بحماية الجيش في استمرار عمل التجمع الدستوري واجتماعاته اليومية المطولة في دار التجمع بتونس العاصمة, وهو ما مكن الأمين العام للتجمع للتنقل بكل حرية إلى مناطق داخلية بالبلاد منها سيدي بوزيد أين حرق اثنان من الناشطين في المجتمع داخل مخفر شرطة ليلة زيارته لها. كما إن اللجان التي كونت, وترأسها ثلاثة من المشهود لهم بالكفاءة, قد أصبحت في مهب الريح بعد إن أصبح أعضاءها رجال من الصفوف الأولى للتجمع, فكيف لزهير المظفر المنظر التاريخي للتجمع والمؤسس لنظرية القمع القانوني التي سلطت على الشعب, بان يكون عضو في أحد هذه اللجان. وهذا ما سيساهم في ضمان الوجود السياسي للتجمع لاحقا ولإفلات العديد من المشهود لهم بالجرم والفساد من المحاسبة. وتمسك الغنوشي وحكومته بهؤلاء الأعضاء وأجبروهم على الإسراع في العمل ومنعوا الإتحاد العام التونسي للشغل من الحوار والنقاش حول إعادة تركيبة هذه اللجان. ومضى أصحاب الثورة المضادة في تعنتهم وفرض الأمر الواق بان عينوا ثلاثة وعشرون محافظا (واليا) جديدا, تسعة عشر منهم تجمعيون معروفون بالفساد الى حد النخاع, ولولا الحركة الاحتجاجية لبدأ هؤلاء الولاة في العمل, ولكن طردوا من جميع المحافظات. ولكن أصحاب الثورة المضادة حاولوا ويحاولون إخراج مسيرات بمقابل مالي لمن يشترك فيها للمطالبة بعودة هؤلاء المحافظين المطرودين. وأصر الغنوشي وحكومته على عدم تغيير المعتمدين وهم تجمعيون وفاسدون بامتياز, ولم يغيروا المدراء المتورطين في كل الجهات, وبنفس الطريقة هم يحاولن جاهدين في أخراج المسيرات المأجورة لبقائهم, بالرغم من أن اغلب المواطنين يطالبون بتغييرهم. والمتتبع لوسائل الأعلام التونسية المكتوبة والمسموعة, فسيلحظ بكل يسر, بأنها تواصل حرمان الأقلام والأصوات الموجهة ضد هذه الحكومة, وسمعت فقط بكل ما يوجه ضد الرئيس المخلوع وعائلته وأصهاره, بل لقد أصبحت أبواق دعاية للحكومة مطالبة الشعب بالهدوء حتى تعطى الفرصة لهذه الحكومة بالعمل, وتتناسى وسائل الأعلام هذه بان الوضع قد تغير وبان عليها الاصطفاف إلى جانب الشعب والى نجاح ثورته على الأقل لطلب الغفران من هذا الشعب الذي وقفت ضده إلى جانب النظام القمعي الراحل, وقد اظهر الطيب البكوش رأي الحكومة الحقيقي في جعل الأعلام خادما تحت طوعه, عندما قال بكل وضوح بان على الحكومة الأشراف على أخلاقيات المهنة. كما إن هذه الحكومة في حد ذاتها لا تمثل الشعب لسبب وحيد بان كل الأصوات الشعبية, وحركة 14 يناير وحركة النهضة التي تمثل الأغلبية الشعبية أعلنت صراحة بأنها ترفض هذه الحكومة رفضا قاطعا, فزيادة على إن وزراء من النظام السابق لا تزال على رأسها كما إن هناك أربعة وزراء مأجورين من فرنسا للبقاء على توجهات النظام القديم. كل الإشارات تدلل بوضوح على إن أصحاب الثورة المضادة يتوجهون بالدولة التونسية إلى حيث يريدون وأنهم أصحاب القرار في كل شئ, وان الالتفاف على دماء الشعب قد حصل. والغريب بان الشعب التونسي الذي ينظر ويشاهد ضياع ثورته لا يزال يتخبط في الاحتجاجات المطلبية وفي قوافل الشكر إلى داخل البلاد.. ضاعت الثورة بين الفراغ الفكري والضعف السياسي للأحزاب والمجتمع.. فهل تنتصر الثورة المضادة.. أم يعود الثوريون إلى الميدان. الدكتور محجوب احمد قاهري