أمام الإصرار المتزايد للشعوب العربية على أن تولد من جديد، ومن رحم ثورة الحرية والكرامة للخلاص من حكم الفرد المستبد، الجاثم على صدرها منذ قرون، تكون قد وضعت حدا فاصلا بين زمنين متناقضين، زمن الاستكانة والاستخفاف، وزمن آخر يبشر بفجر جديد، تستعيد فيه الشعوب سلطتها وسيادتها، وتكسر فيه كل القيود التي كبلتها وحالت دون معانقتها للحرية. إصرار آخر من الأنظمة الشمولية على الاستمرار على خطها ونهجها كأن الأمر لا يعنيها، فورشات الإصلاح قائمة ومستمرة، ومحاربة الفساد جارية على قدم وساق؟ ومع كل هذا فهي محصنة أكثر من غيرها من الانهيار، مستحضرة تجربتها العتيقة في قمع كل من سولت له نفسه الخروج من بيت طاعة الأمير، والنجاح الباهر في تدجين أعتى المنظمات والأحزاب، واختراق النقابات وإفراغها من مضامينها النضالية. إنه الصراع الأبدي بين الاستبداد وجنوده، وبين الحرية التي تخالج الصدور ولا تملك من الوسائل للتجسد على أرض الواقع إلا إرادة قوية على مقارعة الاستبداد، ومنازلته في الشوارع بالطرق السلمية لنزع الشرعية عنه، وفضحه أمام الرأي العام والدولي. وما استعصى على قوم منال إذا الإقدام كان لهم ركابا والمراهنة على تحقيق المطالب الكبرى للشعوب التواقة للتحرر من ربقة الاستبداد عن طريق الاستجداء، وموعظة الحاكم المتسلط كمن يحرث في البحر. " فالخليفة " العباسي كان إذا جاء وقت الموعظة بكى، وإذا جاء وقت السياسة طغى وأفسد، وهذا لا يختلف تماما عن واعظ الذئب، يحكى في الأمثال: " أن رجلا أخذ ذئبا فجعل يعظه " إياك ثم إياك وأخذ أغنام الناس فتعاقب، والذئب يقول له:" خفف يا أخي واختصر، فهناك قطيع من الغنم أخشى أن يفوتني" نيل الحرية لن تتم أبدا برفعها كطلب إلى الحاكم الفرد ليتكرم بها على الشعب، إنما تتحقق بتحرك جماهيري لانتزاعها في إطار صارم من السلمية والمسؤولية. يا قوم، هذا زمان قد رمى بالقيد، واستكبر عن سحبه والطغيان لا يبقى قويا إلا بقدر صمت الشعوب وخوفها، وبقائها على حالة من السكون والتشتت، وعدم القيام لمناهضته جماعة. علينا أن نعي درسا بالغ الأهمية في التحركات الجماهيرية السلمية التي تتحرك من أجل الخلاص من حكم الفرد، ومدى الأثر الإيجابي في تحقيق الهدف. وهذا ما أجمع عليه كلا من غاندي الذي يمثل أقصى الحركات الشعبية السلمية ، والذي رفع شعارا " سوف نتوقف عن لعب دور المحكوم" واستطاع هزم الجيش البريطاني المحتل للهند، وهتلر الحاكم الطاغية الذي اقر في كتابه كفاحي " أنه لا يمكن الاحتفاظ بأجهزة الحكومة عن طريق القوة وحدها" وميكافيلي الذي لا يعرف من المبادئ إلا مصلحة الحاكم، حيث يؤكد هذه الظاهرة في كتابه الأمير، على اعتبار أن القسوة كلما زادت ازداد نظام الحكم ضعفا، وأنه إذا لم يكن من سبيل أمام الحاكم لانتزاع الطاعة إلا بالعنف، فإن النظام يكون آخذ في الزوال" وهذا ما حدث بالفعل مع كل الأنظمة التي واجهت شعوبها بالقمع والرصاص، فكانت النتيجة عكس ما توقعه الطغاة،فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وخر عليهم السقف. إن أعظم سلاح نواجه به عنف الدولة هو الاستعداد لتحمل هذا العنف، والتصميم على استمرار الحركة الشعبية السلمية، وهذا يقتضي قدرا كبيرا من ضبط النفس، وتحمل الأذى حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا. " لا يكن غاندي الذي شغل العالم بحكمته في تدبير الثورة أكثر من ثلاثين عاما أذكى منك. العصيان المدني طرد أعظم دولة يومذاك من الهند. فلحن أولى بنبذ العنف" (1) فالعنف الذي تمارسه الأنظمة الاستبدادية لتجبر الشعوب على الخنوع لن يجد نفعا، ولن يهزم أبدا الحركات السلمية مهما بلغ هذا الأذى، وكل قطرة دم من دماء الشهداء والجرحى ستتحول بإذن الله إلى نار تحرق الطغاة، ونور يضئ الطريق لعشاق الحرية . ففي القتلى لأجيال حياة وفي الأسرى فدى لهمو وعتق وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق محمد أوراغ 1- الأستاذ عبد السلام ياسين. سنة الله ص 296