الهجرة ،هي الانتقال من مكان إلى آخر، أو من حال إلى حال، ومواسم الهجرة، تُلاحَظُ أكثر عند الحيوانات، التي لها قدرة الانتقال السريع مع التحول التدريجي للحالة المناخية ،وبما أن مناخ هذه الكائنات، مرتبط بتوفر أساسيات الحياة لها، حياة تمكنها من ،الاستمرار والإخصاب والإنجاب، وبما أن احتياجاتها،تكمن أساسا في توفر الغذاء وهذا مدخل لوجود العنصر،وفضاء يسمح لها ويمكنها من التلقيح ومن ثم التوالد، وهذا مدخل لوجود الفصيلة، وهجرتها هذه ،لا تتحكم فيها، وليست لها إرادة تحقيقها، وإنما تقاد إليها، وفقا للنواميس التي تتحكم في علاقات الكائنات بالكون، وفيما بينها. أما بالنسبة للكائن العاقل، هذا الإنسان، الذي يكابد ويكافح بإرادة، لصنع حياة أفضل، وعالم أجمل، يحقق فيه ذاته وتطلعاته ،هذا الإنسان، الذي دائما يجرب،يفشل مرة وينجح مرات، يراكم التجارب على مر العصور، يلاحق الأفكار والمشاريع، وتُلقَحُ أفكاره ورؤاه،ويبني نماذجه بعرقه وفكره وإرادته. والهجرة،بالنسبة له، هي حل إرادي لواقع، متردي و خانق ،لا يسمح له بالتطور والتصور والبناء، والانتقال، إلى مجال أفسح، يمكنه من توظيف طاقاته الكامنة ومخزونه المعرفي و الطاقي، لبناء نموذجه الذي يبتغيه، إذا هو انتقال، من فضاء مغلق مكبل ومعيق، إلى فضاء حر فسيح، يمكنه من الحرية في الاعتقاد والتفكير والبناء. ومن هذا المنطلق، نضع هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم، من فضاء قريش الخانق والمستبد، إلى فضاء يثرب المتحرك والقابل والمهيأ للبناء، فضاء جديد، بهواء جديد، ورؤية جديدة، لا تمس فردا فقط،وإنما تلامس أفئدة مجموعة بأكملها، مستعدة للانخراط في البناء، ولهذا كانت التسمية: الهجرة إلى المدينة. وأصبحت يثرب، مدينة ،وانتقلت من نظام القبيلة إلى نظام المدينة، الذي لا عهد للعرب به، وتم ذلك، في اللحظة التي هاجر إليها الرسول الأكرم ، إذا فالكريم ابن الكريم ابن عبدالله، هاجر من أم القرى إلى المدينة، ليبني امة ، ليبني مشروعا حضاريا، ليبني مجتمعا حرا عادلا ومتوازنا، لا تعوق تطوره الأنساق القديمة، ولا العلاقات القبلية، وتنتج إنسانا جديدا، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، وتُنْقِلُه إلى فضاء رحب واسع متطور ونموذجي،فضاء المدينة والمدنية . وإذا ما دققنا النظر، في زمننا الحاضر، إلى شعوبنا وأوطاننا، فإننا نلاحظ هذه الهجرة المعاكسة، إلى الذات، إلى الحرية، إلى الوطن، هجرة إلى الداخل، بعد عقود من الانكماش حول الذات، لمن بقي بين أسوار الوطن وأسوار سجون الطغاة، أو فرار إلى ما وراء البحار لمن تمكن من العبور ولمن رام التخلص من كلكل الظلم والاستبداد . هذه هجرة نوعية ،فردية وجماعية، مع احتفاء منقطع النظير بالذات، بالمكنونات، وبالإرث الحضاري، الذي التف عليه ألران، وتمكن الصدأ والتكلس من مفاصله ،بفعل الجمود والخمول والاستبداد والهوان وعصور الانحطاط ، هي عودة مفرحة ولا شك ، هي هجرة أرواح وعقول مواطني الداخل، وأجساد وأرواح وعقول مواطني الخارج، المتطلعين للحرية و الانعتاق من الاستبداد، إلى مهج الوطن وفضاءه الرحب ،هي هجرة من الداخل إلى الداخل، ومن الخارج إلى الداخل، الكل في حفلة وطن، نعود إليه حفاة عراة ،يكسونا حلم الوطن، ويتلبسنا وعد البناء، ويمكننا من ملامسة فؤاده و مكنونه. هذه الهجرة، ولكي لا تكون قاتلة من عبق العشق وفورة الحب، يجب أن تكون، هجرة واعية ،واقعية، تحافظ على المكتسبات الحضارية التي تحققت على مر تاريخ الوطن ، وتنشد إصلاح الاعوجاج و الانحرافات، وتُقَوِمُ بالحكمة، ما فسد من الطبيعة والطباع . إذا هي هجرة، أرادها الشعب للنهل من كاس الحرية، لكي يبني مدينة جديدة ،على أنقاض مدن الملح، التي تربع على منابعها الطغاة ،مدينة مدنية تؤسس لمشوار حضاري حديث، أصلها ثابت في ثرى الوطن ،وحلمها العدالة والعزة و الكرامة ،وخواطرها تدور حول تحرير بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، وتخلصنا من الذكريات المشئومة لبلفور ووعده...وتُحَلِلُ من ذاكرتنا بقايا سايكس وبيكو. * تاجر وسجين سياسي سابق