الحمد لله وبه أعتصم، وأصلي على نبينا محمد النبي الخاتم، وعلى آله وصحبه وأسلم، أما بعد،
فقد جَنَّبَنا اللّهُ – معاشر المسلمين - الشُّبْهةَ، وَعصَمنا من الحَيرة، وجَعلَ بيننا وبين المعرفة نسباً، وبين الصدق سَبَباً، وحبَّب إلينا التثبُّت، وزيَّن في أعيننا الإنصاف، وأذاقنا حلاوة التقوى، وأشعرَ قلوبناِ عِزَّ الحقّ، وأودَعَ صدورَنا بَرْدَ اليقين وطرد عنا ذلَّ اليأس، وعرَّفنا ما في الباطل من الذلَّة، وما في الجهل من القِلَّة 0 وإنما حمدت العلماء بحسن التثبت في أوائل الأمور، واستشفافهم بعقولهم ماتجيء به العواقب، فيعلمون عند استقبالها ما تؤول به الحالات في استدبارها، وبقدر تفاوتهم في ذلك تستبين فضائلهم، فأما معرفة الأمور عند تكشفها وما يظهر من خفياتها فذاك أمرٌ يعتدل فيه الفاضل والمفضول، والعالمون والجاهلون. وقد نشرت الأخبار والإشاعات، وتطايرتها الصحف والإذاعات، والمواقع العنكبوتية والفضائيات أنه قد اعتدي على قسيس بولوني في دير من الأديرة بولاية منوبة في تونس، وصدر البيان عن وزارة الداخلية فيه حق وباطل. ونحن معهم فيما نراه حقا في كلامهم وهو أن هذه جريمة، ونختلف معهم في أصل الحكم بالتجريم، إذ أننا نجرم هذا الفعل بالشرع لا بالقانون. فإن ديننا الذي ارتضاه الله رب العالمين لخلقه ولم يرتض دينا غيره، قد حرم علينا قتل المعاهدين وهذا من المعاهدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاما ) كما في صحيح البخاري. وأجمع أهل العلم على أنه لا يجوز قتل النساء والأطفال والشيوخ الزمنى والعميان والمجانين والرهبان الذين لا يقاتلون ولا يعينون على قتال في الجهاد. فإذا كانوا لا يقتلون في حالة الحرب فكيف بهم في حال السلم؟! هذه من المسلمات عند المسلمين، وهذا ما نتفق فيه مع وزارة الداخلية. وأما ما نراه باطلا وخطأ في بيان وزارة الداخلية فهو: المسارعة باتهام الإرهابيين بهذا العمل، ومعلوم أن الناس في هذا البلد قد زرعت فيهم الآلة الإعلامية التي احتكرها النظام الجائر السابق سنين طويلة أن المسلمين إرهابيون، وهذا ولا شك باطل من وجوه: أولا: وزارة الداخلية سلطة تنفيذية فالمفترض منها أن تبحث عن المتهمين وتجمع أدلة إدانتهم، لكنها هنا تجاوزت ذلك لما هو ليس من اختصاصها، والسيد وزير الداخلية - الرجل الذي حضي باحترام التونسيين الشرفاء جميعا - بحكم أنه قاض محنك يعلم أن البينة على من ادعى وإلا كانت دعوى بلا بينات،واتهاما بالباطل. والدعاوى ما لم يقيموا عليها *** بينات أبناؤها أدعياء فهل تملك وزارة الداخلية أدلة على أن العمل إرهابي، مع أن الاحتمال قائم أن تكون القضية جنائية بدافع السرقة أو الانتقام ...
ثانيا: وزارة الداخلية ما زالت مطالبة بإثبات كفاءتها، والتونسيون جميعا يطالبونها بالكشف عن مرتكبي الجرائم بحق أبنائهم وآبائهم وإخوانهم، من السراق الذين نهبوا الأموال إلى القناصة الذين أزهقوا الأنفس البريئة بغير حق، مع أن جميع السراق معروفون بأعيانهم وكثيرا من القناصة تم تصويرهم أو اعتقالهم، ووقع السكوت عن مصائرهم. فكيف تمكنت وزارة الداخلية أن تعرف عقائد الجناة في هذه الجريمة، وكيف حكمت أن الأمر متعلق بالدين؟! ألا يحتمل أن يتعلق الأمر بتصفية حسابات كنسية؟ ألا يحتمل أن يكونوا من الموساد الناشط في أرضنا والذي تواترت أخبار عن تواجد رجال منتمين إليه ينشطون على أرض تونس ويحملون جنسيات أوروبية؟! ألا يحتمل – وهو أرجح الاحتمالات – أنهم عصابات التجمع، وما يرجح هذا أنهم: - هم المدبرون لما يسمى بالمظاهرة لحزب التحرير أمام الكنيس اليهودي كما كشفه مهندسون شباب تونسيون وشهود عيان أكدوا أن المجموعات التي خرجت تتظاهر من جامع الفتح بالعاصمة لم تصل الجمعة مع باقي المسلمين بل كانوا واقفين أمام المسجد يكتبون اللافتات والناس يصلون. - وهم المدبرون للعبة على وتر الجهويات التي جرت أحداثها في القصبة وكشفها التونسيون الأحرار الشرفاء من الأطباء والمحامين والشباب المعتصمين. - وهم أصحاب يد خفية في قضية هدم الجامع بجربة منذ أيام بهدف الربط بين هذا الحادث وحادث المظاهرة أمام الكنيس اليهودي لمحل تواجد بعض اليهود بجربة، وأبى الله إلا أن يفضح مكيدتهم تلك أيضا. - وهم المدبرون لأغلب عمليات السطو والسرقة والتحريق والتخريب التي وقعت في البلاد وهذه أصبحت حقيقة علمية لا تحتاج إلى استدلال لشهرتها وتواترها. - وهم الذين أطلقوا السجناء من المجرمين ليفسدوا في البلاد وغير ذلك ... قد كان ما كان مما لست أذكره *** فظن شرا ولا تسأل عن الخبر
أفلا تعد كل هذه قرائن مرجحة، لأن تكون هذه الجريمة حبة أخرى في مسبحة جرائم التجمعيين لا سواهم؟
ثالثا: خبراء علم الجريمة ( La criminologie ) في أجهزة الداخلية يعلمون أن أهم أساليب معرفة الجاني طريقة الاستقصاء بسؤال: لمصلحة من؟ و كل فرد من أبناء بلدنا الطيب هذا يعلم أن كل فوضى وكل فساد وكل تخريب وكل جريمة تحدث اليوم إنما هي في صالح التجمعيين وحدهم، الذين أثبتوا في مئات الأحداث المتتالية الآن وبشهادة وزير الداخلية نفسه أنهم هم المغذون لهذه الجرائم والمخططون لها والمالكون لأسباب فعلها ووسائله. فكما يكون سؤال: (لمصلحة من ؟) هو أول سؤال يسأله خبراء علم الجريمة في حادثة قتل مليونير مثلا، وتبدأ شكوكهم تحوم حول أرملته المستفيدة الوحيدة من ثروته بعد موته، فإننا نريد منهم أن يطبقوا ما تعلموه في أكاديميات الشرطة وأن يسألوا بصوت مرتفع، كما يسأل العامي من الشعب الذي لم يتعلم هذا في دروس التكوين، لكنه بغريزة عقله يسأل بصوت عال : (لمصلحة من؟). السؤال الثاني: إذا جاء المتهم بإثبات يبين غيابه عن مسرح الجريمة ساعة وقوعها فهذه تسمى (Alibi). وعندنا شهادات – وجهاز الداخلية أقدر على أن يجمع أكثر منها – تثبت أن الشعب كان غائبا عن مسرح الجريمة. فإن عددا من شهود العيان تحدثوا عن إطلاق النار بطريقة مكثفة في مكان الحادث والمناطق المجاورة له قبيل صلاة العشاء، مما دفع الناس إلى الاعتصام ببيوتهم وخلو الطرقات من المارة وقت الحادثة، عدا بعض السيارت المشبوهة التي كان بعض منها لا يحمل لوحات أرقام، وهذه النوعية من السيارات أصبحت لهذا الشعب العظيم خبرة تامة في معرفة من هم المستعملون لها. فهل يمكن والحال هذه أن يكون القائمون بهذه الجريمة مجموعة من الشباب المتهور كما يريدون لنا أن نظن؟! والجواب الواضح أن هذه جريمة مدبرة مخططة باحتراف، والشعب يملك (Alibi) تخول له البراءة من هذه الجريمة إذا أضيفت إليها القرائن الأخرى. وأما المسألة الثالثة وهي سلاح الجريمة، فالتجمعيون وإن كانوا قد أثبتوا غباء بلا حدود في غالب تصرفاتهم، إلا أنه لا يتوقع منهم أن تصل بهم البلاهة إلى حد أن يقتلوا أحدا بسلاح يعرف كل من في الأرض أن الشعب لا يملكه، فلما كانت غايتهم توريط الشعب ولا شيء غير ذلك كان المناسب أن يستعملوا أسلحة بيضاء. وليس على الشعب أن يأتي بجميع الأدلة التي تثبت براءته بل يكفيه دليل واحد، وقد بينا أدلة برغم ذلك. ونذكر بأن كثيرين من عصابات التجمع المحترفة والمأجورة كانت تستعمل أسلحة بيضاء في ترويع الآمنين، ولكم أن تراهنوا أن الشعب لم يفقد بعد الذاكرة، وليس مصابا بالزهايمر كبعض إطارات التجمع، فلذلك هو ما زال يذكر الفترة الأولى من الثورة وأحداثها.
رابعا: سؤال بريء من حقي كتونسي أن أسأله: لم هذه الحملة الدعائية الضخمة التي حضي بها هذا القسيس وهذه المسارعة إلى الاستنكار لم يحض بعشرها أكثر من مائة قتيل في أحداث الثورة وآلاف المعذبين والمعتقلين في السجون في عهد النظام السابق والأسبق منه والذين كان منهم مسلمون ومسيحيون وشيوعيون وقوميون ويساريون وعلمانيون؟! هل دمهم أغلى من دمنا؟ أم لأن دماءهم وراءها مُطالب ودماؤنا لا بواكي لها؟!
وأخيرا، فإننا نحمد الله رب العالمين أن هذا الشعب الطيب أثبت وعيا عاليا وفطنة متوقدة إزاء كل ما يدبر له من كيد، ولهذا فإننا نتوجه لكل التجمعيين بنداء عاجل لنرجوهم ونتوسل إليهم أن يحترموا ذكاءنا، ونحذرهم وعي هذا الشعب بمكائدهم، ونذكرهم فوق كل ذلك مكر الله الجبار القهار، الذي هو وحده يكلؤنا بالليل والنهار، وصلى الله وسلم على النبي المختار. والحمد لله رب العالمين.
تونس في 19 فيفري 2011 أبو جهاد كمال بن محمد المرزوقي