بنزرت ..كلّية العلوم بجرزونة .. وقفة مساندة للشعب الفلسطيني وورشة ترصد انتهاكات جرائم الإبادة !    تونس تشارك في الدورة الأولى من الاجتماع الخاص للمنتدى الاقتصادي العالمي حول التعاون الشامل والنمو والطاقة بالرياض    منوبة ... طلبة معهد الصحافة يدعمون الشعب الفلسطيني    وزارة التجارة تنفي توريد البطاطا    توقيع اتفاقيات ثنائية في عدة مجالات بين تونس و المجر    عاجل/ وزير داخلية إيطاليا يوضّح بخصوص إقامة نقطة لاستقبال المهاجرين في تونس    صفقة الهدنة مع «حماس» زلزال في حكومة نتنياهو    بطولة مدريد للتنس.. أنس جابر تتعرف على منافستها في ربع النهائي    الليلة: أمطار في هذه المناطق..    حادثة قطع أصابع تاكسي في "براكاج": الكشف عن تفاصيل ومعطيات جديدة..#خبر_عاجل    قبلي: حجز 1200 قرص مخدر و10 صفائح من مخدر القنب الهندي    بين غار الدماء وعين دراهم: حادثا مرور واصابة 07 أشخاص    دامت 7 ساعات: تفاصيل عملية إخلاء عمارة تأوي قرابة 500 مهاجر غير نظامي    النادي الافريقي: 25 ألف مشجّع في الكلاسيكو ضد النادي الصفاقسي    خالد بن ساسي مدربا جديدا للنجم الساحلي؟    درة زروق تهيمن بأناقتها على فندق ''ديزني لاند باريس''    المجمع الكيميائي التونسي: توقيع مذكرة تفاهم لتصدير 150 ألف طن من الأسمدة إلى السوق البنغالية    نائبة بالبرلمان: ''تمّ تحرير العمارة...شكرا للأمن''    الجامعة التونسية المشتركة للسياحة : ضرورة الإهتمام بالسياحة البديلة    نادي تشلسي الإنجليزي يعلن عن خبر غير سار لمحبيه    عاجل/ وزير خارجية المجر: 'نطلب من الاتحاد الأوروبي عدم ممارسة ضغط يؤدي لعدم الاستقرار في تونس'    السنغال تعتمد العربية لغة رسمية بدل الفرنسية    الرابطة الأولى: تفاصيل بيع تذاكر مواجهة النادي الإفريقي والنادي الصفاقسي    مليار دينار من المبادلات سنويا ...تونس تدعم علاقاتها التجارية مع كندا    بطولة الرابطة المحترفة الاولة (مرحلة تفادي النزول): برنامج مباريات الجولة التاسعة    إنهيار سد يتسبب في موت 42 شخصا    عاجل/ هذا ما تقرر بخصوص محاكمة رجل الأعمال رضا شرف الدين..    "بير عوين".. رواية في أدب الصحراء    بعد النجاح الذي حققه في مطماطة: 3 دورات أخرى منتظرة لمهرجان الموسيقى الإلكترونية Fenix Sound سنة 2024    سليانة: 4 إصابات في اصطدام بين سيارتين    كأس الكونفدرالية الافريقية : نهضة بركان المغربي يستمر في استفزازاته واتحاد الجزائر ينسحب    وزير الخارجية الأميركي يصل للسعودية اليوم    مدنين : مواطن يحاول الإستيلاء على مبلغ مالي و السبب ؟    قيس الشيخ نجيب ينعي والدته بكلمات مؤثرة    تصل إلى 2000 ملّيم: زيادة في أسعار هذه الادوية    ما حقيقة انتشار "الاسهال" في تونس..؟    تونس : ديون الصيدلية المركزية تبلغ 700 مليار    الإطاحة بشبكة مختصّة في الإتجار بالبشر تنشط في هذه المناطق    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    هام/ بشرى سارة للراغبين في السفر..    الرابطة الأولى: برنامج مباريات الجولة السادسة لمرحلة التتويج    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    زيارة ماسك تُعزز آمال طرح سيارات تسلا ذاتية القيادة في الصين    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    تونس توقع على اتفاقية اطارية جديدة مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وحد همك لئلا تتشعب بك الهموم
نشر في الحوار نت يوم 30 - 10 - 2009

قال عليه الصلاة والسلام فيما ثبت في صحيح الجامع الصغير : " من جعل الهموم هما واحدا هم المعاد كفاه الله سائر همومه ومن تشعبت به الهموم من أحوال الدنيا لم يبال الله في أي أوديتها هلك ".

كما قال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر : " من كانت الآخرة همه جمع الله شمله ومن كانت الدنيا همه فرق شمله وجعل فقره بين عينيه ".


لا يخلو الإنسان من هم أبدا.

ليس صحيحا أن غير المسلم سيما من غير أهل الكتاب لا تستبد به الهموم. تلك قالة إخترعها بعض المسلمين قديما أو حديثا في معرض تأكيد مسؤولية المسلم وتحمله لأمانة الدعوة والبلاغ. وكثيرا ما نعمد إلى حشد أدلة وعوارض في غير محلها عندما نتعبأ بفكرة ما غافلين عن قانون النسبية الذي قال فيه سبحانه يعلمنا قول الحق : " ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ".. أنظر كيف بدأ بالنسبة الإيجابية منهم ثم أنظر كيف أنه نسب إلى تلك النسبة الإيجابية أكبر قيمة أي القنطار وفي مقابل ذلك أخر النسبة السلبية منهم ونسب إليهم أدنى قيمة أي الدينار..

غير المسلم بل كل إمرئ في العادة يحمل هما بل هموما ولكن الخلاف بين الرجلين هو في نوع الهم فحسب لا في درجته ولا في مصدره.. الدليل على ذلك قوله سبحانه : " الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ". الذي يقاتل من الذين كفروا معرضا نفسه للموت لا يقال عنه أبدا أنه لا يحمل هما أو قضية بتعبيرنا المعاصر.. وأدلة أخرى كثيرة يضيق عنها المجال. بل لا نحتاج إلى أدلة من القرآن والسنة بسبب أن إستحواذ الهموم على الإنسان شأن فطري سنني جبلي لا يند عنه بشر. غير أن سوء ترتيب العلاقة بين السنة وبين الإسلام عفا عن عقول ( مسلمة ) كثيرة حدت بها إما ظروف التعصب أو شغبات الجهل إلى تقديم الإسلام وتأخير السنة. ليت شعري من يتأسس على من؟ ليت شعري من أصل من؟

ليس المنكور تعدد الهموم ولكن المنكور تفرقها.

ذكر الحديث ( حديث صحيح الجامع الصغير) الهم بصيغة الفرد ( من جعل الهموم هما واحدا ) وكذلك بصيغة الجمع ( كفاه الله سائر همومه ).. وفي ذلك دليل على أن الهم متعدد متنوع. تلك حقيقة لا تلجأ إلى الإستدلال عليها بغير نفسك كلما كنت بشرا سويا يخالجك الذي يخالج كل أخ لك في البشرية كما قال الإمام عليه عليه الرضوان لعامله الأشتر ( الناس رجلان : أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ).. تلك حقيقة تقتضيها طبيعة التكوين البشري ذاته إذ معلوم أن الإنسان نسيج موحد بين أبعاد كثيرة لعل أبرزها : العقل وما يكون تحته من أبعاد روحية من مثل النفس والروح والعاطفة والذوق .. والبدن وما يكون تحته من أبعاد مادية من مثل بعض الغرائز المادية.

إذا كان الإنسان متعدد التكوين فإن الهموم تكون بالضرورة متعددة متنوعة.

ماذا يعني توحيد الهموم في هم واحد.

معنى ذلك هو القيام بالعمليات التالية :

1 إحصاء الهموم منطلقا من نفسك لا من بطون الكتب ولا من غيرها.
2 توزيع الهموم بحسب نوعها : عقلية روحية نفسية عاطفية ذوقية من جهة ومادية بدنية غرائزية من جهة أخرى ( الغرائز طبعا منها مادي ومنها معنوي ومن حيث الأصل كلها مشروعة مخلوقة للإشباع والإرواء ولكن في إتجاه بوصلة الهم الواحد وبتوازن).
3 تقديم الهموم العقلية الروحية وما في جنسها على الهموم البدنية المادية إنسجاما مع الرسالة الإسلامية التي تقدم مصلحة الدين على مصلحة النفس بشكل عام ولكن ليس في كل المناسبات وأنضح ما يكون ذلك التقديم في المصالح العامة للناس وهو ما قدم الجهاد القتالي الذي فيه قتل للنفس وعدوان على البدن والغرائز المادية حماية للناس ولكن تتقدم هذه على ذلك عندما يكون الأمر خاصا بمصلحة ذاتية إلا إذا رام صاحبها عزيمة العزائم.
4 على أن ذلك التقديم للهموم العقلية وما في حكمها لا يكون جائرا وخاصة في الأحوال الشخصية الخاصة بكل إنسان مسلم فرارا من التشبه بالمسيحية الأولى صاحبة الشعار المعروف ( من لطمك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر )..


شروط توحيد الهموم في هم واحد.

1 شرط الإخلاص أي إبتغاء وجه الله وحده سبحانه إذ لو توحدت الهموم في هم واحد هو غير هم المعاد ( كما ذكر عليه الصلاة والسلام في حديثه ) كان الإنسان موحد الشخصية ولكنها شخصية خادمة لمن يتخذه إلها من دون الله حتى لو كان ذلك هواه.. الذي يقاتل في سبيل الطاغوت مثلا موحد الشخصية ولكنه توحيد في الإتجاه الخاطئ..

2 شرط جعل الدنيا حقلا لذلك التوحيد أي توحيد الهموم في هم واحد. وهذا الشرط يقتضي بالضرورة الإستمتاع بالدنيا وطيباتها دون تأثم مغرور أو كذب مفضوح. عمليا يستحيل أن تتوحد الهموم الإسلامية في هم واحد ثم لا تكون الدنيا بطيباتها حقل إستمتاع طيب كريم.

3 شرط مخالطة الناس والصبر على أذاهم. أي شرط الجماعية تواصيا بالحق والصبر والمرحمة وإعتصاما وجهادا بالمال والنفس والعلم. إذ من شأن الهموم إذا توحدت في هم واحد أن يتعاون عليها الناس ومن الناس المتعاونين على ذلك غير المسلمين من غير المحاربين. أفضل وضع لذلك التعاون هو ما دعا إليه القرآن الكريم : " تعالوا إلى كلمة سواء ".. أفضل وضع لذلك التعاون هو تعاون المستضعفين من كل دين وملة ومذهب وطائفة ومن غير ذوي الدين أصلا ذودا عن حقوقهم أن يدهسها المستكبرون .. أي بناء الحياة على وتدين يتكاملان ولا يتخاصمان : الإيمان والكفر من جانب والعدل والظلم من جانب آخر.. بناء الحياة على وتد واحد منهما قد يقيم كتابا ويخرم ميزانا أو يقيم ميزانا ويخرم كتابا وفي الحالين خرم للكتاب والميزان معا..

4 شرط العلم بما يتيح لمن يجعل الهموم هما واحدا مسافة من المعرفة في فقه الحياة تمكنه من القيام بعمليات يومية كثيرة فيها التقديم والتأخير وفيها التكبير والتصغير وفيها الفورية والتأجيل وفيها الجزئية والكلية وفيها الشخصي والعام إلى آخر ذلك .. أهم علم مطلوب هنا هو : علم مراتب الأعمال أو فقه الأولويات بالتعبير المعاصر.. بمعنى أن كل عمل والقول عمل يوزن ثم يلحق بحقله ثم ينظر في سعره ثم ينظر في تطور الحياة بعد فعله أي مآله ثم يمضى أو يلغى أو يؤجل أو يقسم أو يكيف إلخ ..

هم المعاد أوسع من أن تملأه هموم الآخرة.

ليس هناك داء أصاب العقل الإسلامي منذ باكورة التاريخ الإسلامي أي تحقق النذارة النبوية في إنقضاض عروة الإسلام الأولى ( عروة الحكم على أيدي بني أمية المنقلبين على شورى محمد عليه الصلاة والسلام وشورى الخلافة الراشدة ).. ليس هناك داء أصاب العقل الإسلامي ومازال يفعل فعله الخبيث في الحياة رغم التجديدات قديما والصحوات حديثا أعضل من داء : الرؤية الجزئية للحياة في مقابل الرؤية الإسلامية الجامعة ( الشاملة بالتعبير السائد أقل بلاغة ).. الرؤية الجزئية للحياة معناه بإختصار شديد : التعامل مع الحياة تعاملا بالتفصيل لا بالجملة .. التعاملان مطلوبان : الجملة والتفصيل معا.. ولكن العاقل ليس هو من يعرف ذلك ولكن العاقل هو من يعرف متى يكون إعمال الجملة في الرؤية ومتى يكون إعمال التفصيل فيها..

هموم الدنيا هي هم المعاد عندما تكون خادمة للرسالة الإسلامية : إياك نعبد وإياك نستعين.. ولكم كان النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام معلما عندما ضرب لذلك مثل من يضع بضعه في الحلال فيكون له به أجر ومن يضعه في الحرام فيكون عليه به وزر.. وذلك في الحديث المعروف بحديث ( أهل الدثور )..

لو كانت هموم الدنيا يضيق عنها الهم الواحد أي هم المعاد لما نال شيخ الأنبياء وجدهم إبراهيم عليه السلام أجره في الدنيا دون أن ينقص ذلك من أجره في الآخرة .. ( وآتيناه أجره في الدنيا )..

وبمقابل ذلك لو كانت هموم الدنيا الناشزة عن الهم الأوحد ( هم المعاد ) ليست مادة إمتحان للناس بما فيهم الكافرون منهم حتى لو كان إمتحان الكافرين ( في الأغلب والأرجح وليس يقينا ) إمتحان مد وليس إمتحان تخفيف لو كان ذلك كذلك ل " ما سقى منها كافرا شربة ماء " كما أخبر الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام عن الدنيا .. وقبل ذلك عندنا القانون السنني الذي لا يتخلف صدع به القرآن الكريم : " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا ".. ولكن ليس هناك دليل ناهض لا يقاوم على أن إمتحان الكافر بالدنيا ولو مدا وبسطا ليس من مقاصده هدايته إذ أن ذلك يخاصم رسالة الإسلام التي إنما جاءت هادية للكافر أما المؤمن فإن هدايته هي من ضرب قوله سبحانه : " فهدى الله الذين آمنوا لما إختلفوا فيه من الحق بإذنه ".. الهداية من الضلال إلى الحق أصل الإسلام أما الهداية من الحق إلى الأحق فهي فرع الإسلام ..

كيف تكفى سائر همومك بجمع نفسك على هم واحد.

أول ما يسترعي الإنتباه هنا هو أن هموم الدنيا مشروعة مفهومة وليس أدل على ذلك من قوله : كفاه الله سائر همومه ... أي إعترف بها ولو لم يعترف بها لما كفاه إياها.. الهموم الدنيوية إذن ليست منكورة بل مطلوبة من حيث هي مادة الهم الواحد أي هم المعاد.. كمن يبتغي الجائزة الأولى في مسابقة ما فإنه يستخدم الملعب المخصص لذلك حقلا لنيل تلك الجائزة .. الملعب مناط الجائزة أي : الدنيا مناط الآخرة .. أي : هموم الدنيا مناط هم المعاد..

أليس الله بكاف عبده..

أجل. ولكن كيف؟ يكفيك ربك سائر همومك إذا وحدتها تحت سقف هم واحد وفوق أديم هم واحد هو هم المعاد.. وذلك من خلال القيم التالية :

1 كفاية النفس أن تشرئب إلى ما يشوش على إتجاه بوصلة الشخصية من مثل غش في الإخلاص ( إخلاص العبادة أو إخلاص الإستعانة أي العمل سواء بسواء إقرأ لإبن القيم عليه الرحمة والرضوان كيف يفصل في الإخلاصين وفي كل واحد منهما بما يشرح صدرك ويوسع دائرة أفقك العقلي ).. ومن مثل الفقر الحاضر أي : الطمع ( حديث : الطمع هو الفقر الحاضر)..

2 الزهد الإسلامي الحقيقي. الزهد عبادة الأغنياء والموسرين على خلاف ما هو سائد عند عامة المسلمين بل عند خاصتهم إلا قليلا.. الزهد الذي هو الإستغناء عن الشيء مع القدرة عليه .. عبادة من يقدر على إمتلاك ذلك الشيء ولكن يزهد فيه تعففا أو ترتيبا لأولويات أو إيثارا أو غير ذلك .. أما من عجز عنه فلا يسمى زاهدا إلا في لغة الزاهدين العجز من المسلمين الذين بنيت عقولهم على غير الميزان الإسلامي .. الزهد الإسلامي الحقيقي هو : الإستغناء عن شيء مملوك أو مقدور على ملكه .. الزهد بهذا المعنى نعمة أنى للأقلام والألسنة أن تتحدث عنها.. الزهد الإسلامي الحقيقي هو بمثابة نعمة الرضى .. الرضى المتبادل بينك وبين ربك سبحانه .. ترضى عنه أنت ثم يرضى هو عنك.. قال في كل المواضع : " رضوا عنه " وليس رضوا به.. مع أن السائد هو الرضى به إلها وربا ووليا .. ولكن لرفعة درجة الرضى فإن الرضى به إلها ووليا وربا يكون في المعيار الإسلامي رضى عنه ومن باب المقابلة كذلك .. بمثل ما يرضى هو عنك ترضى أنت عنه .. الزهد والرضى متلازمان .. لأن الرضى ثمرة الزهد.. بمثل أن الزهد ثمرة نعمة الشكر وبمثل أن الشكر ثمرة نعمة الشكر على المصيبة.. الشكر على المصيبة ليس خصيما للصبر وسؤال الفرج .. ولكن في المصيبة عند المقربين تتناخ رواحل الشكر والصبر يقينا ورجاء وخوفا على أعتاب الرضى الرحماني فيضحى الشكر صبرا ويضحى الصبر شكرا ويضحى الرضى زهدا ويضحى الزهد رضى .. ثم رضى متبادل بين الله وبين عبده..

3 الخلوص تمحضا إلى الهم الواحد ( هم المعاد ).. أي تيسير الأمر في الحياة علما وعملا على أساس تكون فيه الآخرة وأعمالها الدنيوية ( حتى النكاح والأسفار والولد والوظيفة وغير ذلك مما يعده الناس دنيا ).. هي المطلوب الأول .. أو بكلمة أخرى ميسرة : توجيهك لليسرى في طلب الآخرة وهم معادها أي تأتيك مناسباتها راغمة.. تيسر لك أعمال الخير حتى وأنت في يم العمل الدنيوي .. إجرد برنامجك اليومي إن شئت لتلفى أن يومك كله من فجره حتى عشائه الآخرة هو في سبيل الله سبحانه.. لا بل هو مكتظ يكاد ظهرك من وزره يندك.. ليس كل الناس ميسر لذلك الخير.. ليس كل العلماء وليس كل الفقهاء وليس كل العاملين للإسلام من الدعاة والمصلحين وليس كل أهل الخير وليس كل مسلم ومسلمة من باب أولى وأحرى.. أولئك هم الذين إصطفاهم حقا لخدمة عباده.. وذلك هو بعض من معاني قوله سبحانه : " ونيسرك لليسرى ".. اليسرى في نوعها هي ضد العسرى أي الرهق والعنت واليسرى في كمها هي ضد الفراغ ..

4 ولكن ليس من معاني كفاية الله عبده وكفايته سائر همومه إذا جعل الهموم هما واحدا هو هم المعاد .. ليس من معاني ذلك أن يقضي حاجاته الدنيوية كلها أو حتى جلها..

لماذا؟

1 لأن ذلك الصنف من الناس لا يسألون في العادة ربهم أمورا دنيوية لأجل الدنيا.. فإذا سألوا مثل ذلك فإنما لتكون مادة لخدمة هم المعاد.. فإذا غاب المسؤول عنه غاب تحققه في العادة إلا بمثل أجر إبراهيم عليه السلام في الدنيا ( إنجاء من النار وهبة لإسماعيل على الكبر وإسحاق عليهما السلام ولهاجر وسارة عليهما السلام والتطواف بين العراق ومكة وغيرهما )..

2 لأن تلك المسؤولات إذا سئلت فأعطيت تشبع بركة قبل أن تعطى .. أنظر حولك لتلفى رجلين أحدهما أعطي من الدنيا شيئا مما أعطي قارون ولكن لم يعط من البركة والزهد والرضى والشكر والقناعة فضلا عن الحمد وإغاثة الناس شيئا فهو يلهث دوما .. لهث الكلب لا يغنيه ظل ظليل عن ذلك ولا وطيس حر.. أما الآخر فأعطي من الدنيا ما يستره أو أدنى .. يجوع يوما ويشبع آخر.. ولكنه أعطي من كنوز القلب ورضى النفس ما به قرت عينه.. ذلك هو معنى البركة من جهة وذلك هو معنى : كفاية الله عبده هموم الدنيا .. أي إن أعطيها بورك له فيها وإن لم يعطها لم تذهب نفسه عليها حسرات ..

أودية كثيرة مهلكة .. لا ينجو منها حتى المصلحون.

يتفاضل الناس اليوم بينهم باطنا وظاهرا بالعمل للإسلام والإنخراط في قافلة الإصلاح.. ولكن يغفل كثير منهم عن هذه الحقيقة : " رب أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ". وهذا عويس الذي أخبر عنه الصادق المصدوق عليه الصلاة والسلام .. رجل مستجاب الدعوة.. لم يهدأ للفاروق عليه الرضوان خاطر حتى لقيه وسأله الدعاء .. أودية كثيرة مهلكة يقع فيها أولئك المصلحون .. بل أودية المصلحين أشد فتكا من أودية غيرهم.. أودية المصلحين فيها أشقى واد وهو وادي الرياء المحبط للعمل وفيها وادي الكبر الذي لا يدخل صاحبه الجنة أبدا مطلقا وفيها وادي النمام المشاء به وهو كذلك أحد أربعة لا يدخلون الجنة من أمة محمد عليه الصلاة والسلام.. ترى كم من غارق في أودية الهلاك تلك لا يبال الله به سبحانه بمثل ما ورد في حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام آنف الذكر وهو لا يعلم بل هو في عيون الناس إماما مقدما..

لذلك جاء في الأثر : " كل الناس هلكى إلا العالمون وكل العالمين هلكى إلا العاملون وكل العاملين هلكى إلا المخلصون والمخلصون على خطر كبير "..

هم المعاد فكري وعملي وقلبي.
يكون معادك همك الأوحد حقا عندما يتوحد عقلك في بوتقة الإسلام الفكرية وعنوانها الأكبر هو : الكتاب والميزان معا فلا كتاب بلا ميزان ولا ميزان بلا كتاب.. إذا ضمنت ذلك تنتقل إلى الخطوة الموالية : يكون معادك همك الأوحد حقا عندما يتوحد عملك في بوتقة السنة النبوية فيما فيه سنة وفي بوتقة عدم مضادة السنة فيما ليس فيه سنة أي إنتهاج منهاج السنة سيما فيما ليس فيه سنة وأغلب الحياة ليس فيها سنة.. إذا ضمنت ذلك تنتقل إلى الخطوة الثالثة الموالية : يكون معادك همك الأوحد حقا عندما يتوحد قلبك في بوتقة الإخلاص عبادة وإستعانة معا.. أما إذا إنفصلت حلقة من تلك الحلقات الثلاث عن عقدها الثلاثي ( معاد فكري ومعاد عملي ومعاد قلبي ).. فإنك أعرج المعاد .. أعرج الهم.. نأى بك واد من أودية الهلاك .. أما إذا فاضلت بينها فلا تقدمن على المعاد الفكري شيئا لأنها ترجمته الإسلامية هي : الإيمان والعقيدة.. وكم من عامل مخلص ولكنه في وحل واد مهلك إسمه : واد الشبهة .. ويكفيك اليوم شبهة أن تتأخر عن جمع كلمة الأمة على كلمة سواء .. يغويك الشيطان بأنك على الحق المبين ومن خالفك مبتدع ضال أو محدث ..

والله أعلم.

الهادي بريك ألمانيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.