بقلم صالح نوير أستاذ..."سابق"... شحنة أنت.. شحنة متوهجة حوّلت دياجير قطرنا إلى فوانيس، ومافتئت تغزو أرجاء مشرقِ أطاحت فيه بواحدة من أشرس الدكتاتوريات في التاريخ والجغرافيا، لتشيّد على أنقاضها صروح العدل فوضاءات الكرامة وضروب الاستبسال. معجزة هي ترى أم "سرّ"؟ سحر أم أضغاث؟ لك أن تتقصّى في الشروح والتفاسير، في الأساطير، في "الجمجمة" والسندباد والمسيح الدجال، في "الكوجيطو" و"رأس المال" و" آدام سميث" وحتميات الصراع وسنن التدافع... حين تربو الغطرسة قمم "الهملايا" لتأتي على الأخضر ولا شيء غير الأخضر، بالقمع بالاغتصاب، بالانتهاكات، بالارتشاء بالسجن، بتجفيف الحلوق وكسر الأجنحة ونبش اللحود والتغوّط في مقابر الأجداد، عندها زعق في وجهي أحد الجلادين متحصنا بثلة من مساعديه وهو يخلع باب بيتي ويقتحمني في أعقاب ليل دامس، بلا حياء، تأخذه العزة بالعهر..ولا يرى هدفا دقيقا لقنّاصته سوى مكتبتي المتواضعة، يبعثر ما تبقّى بها من كتيّبات، أحيانا بلا عناوين، يحجز بعضها معربدا: لا أريد ماضيا ولا مستقبلا أن أعثر في بيتك على مطبوع أو مخطوط، ولا أيّ صنف من أصناف الورق، واضح لكنها مصاحف ، يا سيدي.. لا مصاحف ولا أناجيل، ولا عمّار..مفهوم؟ ونخفي المصاحف في الحشايا، في طيّ الملابس؛ ونمزّق آية الكرسي الملتصقة بجدراننا..لأننا فهمنا..فهمنا الظلم الأسود والقهر بلا حدود، بتعرية الأجساد والتعذيب إلى مشارف الموت، بالوخز بالسياط بالتعليق بالصلب بالخنق بغمس الرؤوس في مياه القمامة بالسب بالتنكيل.. بو عزيزي، يا كبدي: كنا أساتذة عصرنا، نستوي على منابر التدريس..ثم تحولنا إلى زملاء.. معا نتجوّل في بطاح الأسواق، معا نبيع الخردة والخضار ولا نكاد نحصل على القوت، معا نكتوي، نحترق قبالة الأسيجة الموصدة..أمّا نحن فعلى صفيح نار باردة.. وآثرتَ أن تكون نارك ألسنة تلتهب.. لكنها المشيئة، ودموع الثكالى وعويل الأيتام وصراخ المعذبين ودماء الشهداء وكبوة المنكوبين وتضور الجياع..خليط كذائب النحاس يتحوّل إلى جحيم، يأتي على كل من نجبّر.. وها هي ذا الثورة تترصّف لبِناتها باتساق مطّرد، يتسع بناؤها ويتراصّ وينتشر..وماذا ننتظر بعد موت الجلاد إن كان حقيقة قد مات؟؟ لا المال ولا الحظوة ولا الجاه ولا المكانة ولا الثراء...ولا شيء غير الهواء النقي والسعي في مناكب الأرض لنتقاسم خبزا في حيز العدالة وننعم بدفء محبة ووئام، في السراء وفي الضراء وأن نرى الليل ليلا بأقماره ونجومه والنهار نهارا بشمسه وغيومه..حرّاسا مجندين صامدين تحت منارات شيدها أركانها البوعزيزي حفاظا على قدسية بقائه وحتى لا يحترق بين أحضاننا ثانية، لا سمح الله..و ذلك لا ولن يكون..