ما أشبه اليوم بالأمس: في ربيع 2005 تحركت أقلية في جينيف فأسمعت العالم صوتها رغم تشويش المئات من التونسيين "الوطنيين" الذين أرسلهم بن علي للدفاع عن مملكته. لما سمع القصر بهذه القضية غضب غضبا شديدا وخاف على "سرْكه" الأممي أن يفشل فدعا شارون شخصيا "ليشكّب" على أعدائه وليستميل أكبر أسد مدعوّ إلى سرك مجتمع المعلومات، وهو الأسد الأمريكي. الشعب غضب من هذه الدعوة (ولكن في قلبه) وحاولت أقلية النزول إلى الشارع فاُطردت منه، عندذاك انبرى شاب أرعن اسمه محمد عبٌو فكتب مقالا جمع في عنوانه بين اسم المضيف واسم الضيف فلم يرق ذلك للمضيف فوضع كاتب المقال في السجن بتهمة ضرب سيدة من زميلاته. في خريف 2009 قامت في تونس قيامة انتخابية صودر فيها الوطن واختزل في حملة مؤداها أن تونس بلا بن علي تعني طوفانا بلا نوح. الشعب غضب هذه المرة أيضا (في قلبه دائما) والمعارضة المسكينة أُسقط في يدها ولعلها صدقت هي الأخرى قصة الطوفان المرتقب والذي بلا نوح فلبدت وأعطت "ماينه" عندذاك انبرى شاب آخر لا يقل رعونة بل يزيدها وحدثته النفس الأمارة بالعراك بخوض حملة مضادة على صفحات بعض المواقع الفرنسية وليس في تونس طبعا لأن نطق أسماء المغضوب عليهم على الجرائد التونسية ممنوع منعا باتا، اللٌهم إلاٌ إذا كان في صفحة الوفيات. ولا نطيل كثيرا فقد نزلت الفاتورة وهي تهمة بتعنيف سيدة كانت تمر "صدفة" أمام مدرسة خديجة بنيٌة توفيق التي حضرت هجوم السيدة على أبيها في هلع لم تنقذها منه إلاٌ براءة الأطفال وقدرتهم على تحويل الفواجع إلى مادة مضحكة وهي إلى اليوم تضحك على أبيها وتعيٌره بأن امرأة نحيفة ضربته ومزقت أفضل قميص عنده! ما أشبه اليوم بالأمس وخيال النظام محدود وأساليبه لا تتغير: توريط رجال المعارضة الذين ما زالت فيهم دلائل على الفتوة باستغلال "الكفاءات النسائية". توفيق بن بريك... أظنّ أني أفهم بما فيه الكفاية هذا الإنسان الرجيم وأعرف بما فيه الكفاية كيف تدور دواليب مخه على عكس اتجاه عقارب ساعة السواد الأعظم وحتى الرمادي الأعظم من البشر. وقد فهمت ثم سألت فتأكدت من أن "عروة بن الورد" التونسي لم يخض حملته المضادة طمعا في تغيير ما لا يمكن أن يتغير فالرجل من هذه الناحية على الأقل يتمتع بقدر كبير من الواقعية وهو متشائم بطبعه والوضع الراهن لا يساعده على التداوي. كل ما في الأمر هو أنّ سليل جبال خمير هذا أراد إطلاق بارود شرف على طريقة أجداده يقول به أنه ما يزال هنا ولم يمت وليعصي به أمرا كان تلقاه بلزوم الصمت حتى "الانتخابات". لقد كان بالإمكان أن تتم صفقة على قدر ولو ضئيل من العدل: يفعل النظام ما يشاء على طول البلاد وعرضها وتقول "الأقليات" العنيدة أقل مما تشاء في فضاءات افتراضية لا تقدر على دخولها إلاٌ قلة قليلة من التونسيين... وينتهي الموضوع وتتم "الانتخابات" بسلام وبلا ضجة وخصام. ولكن يبدو أن هذا أيضا لم يعد ممكنا وأن إرادة ما قضت بأنّ لبن علي أرض البلاد ومن عليها وبأن ليس لتوفيق وأمثاله إلاٌ وابل الشتم وهراوة التهديد بالقضاء والاعتداءات الجسدية الغادرة وأحيانا التلويح بالتصفية الجسدية. المؤشرات تشير والله أعلم إلى أن توفيق بن بريك سوف يكون أول كبش يذبح في وليمة الاحتفال بالفوز، وهذه مؤشرات مفرطة في السلبية ومفرطة في التجافي مع الحد الأدنى من أخلاقيات المعارك وهي غير سعيدة. فالحد الأدنى من أخلاقيات المعارك يقتضي ممٌن يسيطر على كل موارد القوة ألاٌ يفرط في استخدامها ضد المجردين من القوة تماما. والسعادة "بالنصر" تفترض تجنب جميع منغّصاته، فبن بريك هذا ليس بالكبش الذي يستساغ لحمه في ولائم الفرح، وإذا تقرر لا قدر الله حبسه فلن يكون سجينا سياسيا مُريحا، لا لعائلته ولا لأصدقائه الذين سيجتمعون بعد تشتت وسيخلقون من ضعفهم قوٌة ليدافعوا عن أخيهم وصديقهم بما قد بنغص الأفراح والليالي الملاح، ولا للدولة وللسلط السجنية تحديدا وليس ذلك فقط لأنه إنسان رجيم سيدافع عن كرامته كما يدافع إبليس عن شرٌه ولكن أيضا لأنه إنسان رجيم في جسد مثخن بالأمراض المزمنة ويمكن أن يتحول إلى جثة سياسية سجينة إذا لم يتناول في نصف يوم واحد كميات خرافية من الأدوية الثقيلة... وهذا هو الواقع وليس فيه أدنى نبرة من الاستعطاف ولا التهديد. الصفقة التي على قدر ضئيل من العدل ما تزال ممكنة، فليت عقلاء القوم يفهمون.