عُيّن وزيرا للداخلية و سرعان ما تم استبعاده من الحكومة, استبعاد طُرحت في شأنه كثير من الأسئلة حول أسبابه و خلفياته, و بررت الحكومة هذا الاستبعاد بأنه أمر عادي و هو يتأتّى استجابة لاستقالة. و اليوم يعود فرحات الراجحي ليكشف للشارع التونسي عن بعض كواليس السياسة و ما يحاك فيها من سيناريوهات لإدارة المرحلة المؤقتة و ما بعدها.الخوض في مدى صحّة ما صرّح به الوزير السابق ليس مجالنا و لا نستطيع الحكم فيه و لئن كانت بعض الأمور و الظواهر تتطابق مع ما قاله, و لكن سنرى تداعيات هذه التصريحات في أوساط ثلاث: سياسيا, إعلاميا و جماهيريا. على مستوى الشارع: كانت هذه التصريحات بمثابة "صيحة فزع" في وجه الشارع التونسي الذي عبّر و بسرعة عن غضبه الشديد حيث أنه كأنما شعر بطعنة في الظهر و غدر من أطرافٍ كان أمله فيها كبيرا بعدما قطع معها وعدا و ميثاقا غليظا أنهم معه و في نفس الصف في مواجهة كل قوى تتحدي نبض الشارع و تقف في طريقه, فخرج التونسيون مرة أخرى من حيث انطلقوا يوم 14 يناير فتجمّعوا و تظاهروا في شارع الحبيب بورقيبة و في عدة مدن أخرى, و يرى الشارع التونسي أن الحكومة تمادت كثيرا في التفافها على مطالبه فهي لم تقطع إلى حد كبير مع النظام السابق بل على العكس و كأنها امتداد له مع تغيير في الوجوه مع الاحتفاظ باستمرارية العهد القديم لضمان مصالح أطراف على حساب مطالب الثورة و شبابها. و جاءت تصريحات الراجحي ربما لتدعّم موقف الشارع المؤاخذ للحكومة و تحرك احتجاجا على هذه التجاوزات مطالبا بوقف الانحراف عن مسار الثورة و في التحرك الجماهيري رسالتان واضحتان, الأولى: أن التونسيون قد قبلوا سلفا بحكومة الوزير الأول الحالي ليس اقتناعا بها و لا بشرعيتها فهي لم تتضمّن قيادات ثورية أفرزتها الثورة و إنّما قبلوا بها لأن البلاد تحتاج لإدارة مؤقتة لتصريف الأعمال بغاية الوصول إلى تاريخ 24 يوليو 2011 أما الثانية فهي أن التونسيون قادرون إن لزم الأمر على كنس كل من يستحقّ أن يُكنس فكما أطاح برأس النظام ثمّ ساعِدُه الأيمن فهم قادرون على إعادة الفعل ذاته إذا ما انقلبت السلطة مستقبلا على إرادته. و لكن إذا ما قارنّا بين حجم التحرّك و الاحتجاج و بين حدّة ردة فعل جهاز الأمن و كيفية تعامله مع المتظاهرين, نلاحظ عدم تكافؤ بين الفعل و ردة الفعل, بل أن هناك تحرّكا سلميا بحت قُوبل بوحشيّة و همجيّة وهذا برهان واضح أن عقلية الجهاز الأمني لا تزال العقلية ذاتها ما قبل الثورة و أن الوزارة بعيدة عن تطبيق القانون في تعاملها مع الاحتجاجات بل هي سيفٌ في يد الحكومة . كما أن الاعتداء لم يقتصر إلاّ على المتظاهرين بل شمِل حتى الصحفيين الذين تعرّضوا للضرب و التعنيف حتّى داخل مقراتهم, الرسالة تبدو واضحة للصحفيين و هي أن الحكومة لا تزال مواصلة في سياسة تكميم الأفواه و إسكات كل من يجرؤ على نقل حقيقة ما يجري و يفضح الوجه الحقيقي للممارسات الوحشية لجهاز الأمن و بالتالي وجه الحكومة بما أن الداخلية هي مرآة الدولة البوليسية. أما الرسالة الموجهة للمتظاهرين فهي : لا تفرحوا و تقولوا انكم تعيشون عصر الحرية هيهات سنظل نقمعكم دون رحمة , شبابا و فتيات, شيوخا و كهولا و حتى و إن كنتم رضّعا لن تسلموا من غازنا أو وطأة عصانا. و تبعا لذلك وجب طرد وزير الداخلية الحبيب الصيد و مساءلته قانونيا و أعوانه عن ما صدر منهم في حق الشعب التونسي و تطبيق أقصى العقوبات عليهم ليكونوا عبرة لمن يخلفهم و أن حرية الشعب من المقدسات الإنسانية لا يجوز المساس بها. هذا الجهاز الأمني المتعفّن الهمجي الحقود على شعبه و كأنه ليس منه لا يستحق التقدير أو الاحترام بل من الضروري تطهيره كليا و لا نكتفي بتغيير على مستوى وزاري فقط و إنما يجب أن يقع تطهير السلك الأمني على مستوى أوسع. إعلاميا و سياسيا: الإعلام ذلك الجهاز الأمني ذو الصبغة المعنوية هو من أهم الورقات التي تلعبها الحكومة التي عملت على إظهار موقف حاولت إلباسه عباءة الرّصانة و لكن لم تنجح, استغلت منبرها الإعلامي الذي تحتكرهُ وعبّرت عن استغرابها من تصريحات الراجحي و بدت متجاهلة إلى حد بعيد هذه التصريحات فاعتبرتها مجرّد دردشة و تعللت بأن الوزير السّابق ما كان يعلم بأن الحوار معه كان مصورا و أن مثل هذه الاستجوابات تفتقر للحرفية الصحفية, فعوض أن تناقش الحكومة محتوى التصريحات, اكتفت بالقول "لا أساس لها من الصحة" في حين توسعت في الحديث عن ظروف الحوار بل و تعدت ذلك لتقول أن الراجحي قد تراجع عن ما أدلى به و فنّد ما قاله و هنا نستحضر تعليق أحد وجوه الاعلام حيث قال - أن الراجحي قد تراجع عن ما صدر منه ثم يُضيف المذيع قائلا يجب على القضاء أن يفتح تحقيقا في مدى صحة هذه التصريحات- : تناقض بيّن و صريح حيث أنه إذا كان الراجحي قد فنّد فعلا ما قاله فما الحاجة إلى تحقيق يبحث في صحة ما فُنّدَ؟ الحديث عن تراجع الراجحي في موقفه إنما عي لعبة قذرة تحاول الحكومة من خلالها استعمال "تقنية البرمجة العقلية و اللغوية" للمشاهد بأن شيئا لم يقع و اقناعه بأن الحكومة و أتباعها و المؤسسة العسكرية هؤلاء كلهم بريؤون من التهم و الالتفاف على الثورة و مطالبها براءة الذئب من دم ابن يعقوب. كما أفرط الاعلام و الحكومة في مغازلة الراجحي و وصفه بالشخصية المثالية و الوطنية إلى غير ذلك من عبارات التقديرو هذه المغازلة ليست مجانية و لكنها تعبر عن قلق شديد و ارتباك داخل مسؤولي الحكومة فم يخشون تحدّيه و مقارعته بالحجة و البرهان لانهم لو كانوا على يقين بأن ما قاله الوزير السابق ليس صحيحا لما تهافتوا في رفع القضايا ضده و خاصة أن كل منتقدي الراجحي لم يُعلّقوا على ظروف اقالته من منصبه و لا على العديد من النقاط الأخرى بل كان كل اهتمامهم و تركيزهم على نقطة المؤسسة العسكرية و توقيت و ظرفية هذه التصريحات. ألا يطرح هذا العديد من التساؤلات ؟ لماذا التركيز إلاّ على هاتين النقطتين؟ و أما ما يخص الاعلام فيلزمه هبة مليونية لمقرات الإذاعات و التلفزات لكنس كل المطبّلين القدماء الجدد الذين يُسبحون بحمد الحكومة و يمتثلون لأوامرها حينها يُمكن استرجاع الاعلام و تُصبح منابره ملكا للشعب و صوته الحرّ لا أداة تجميل للسلطة.