للنقاش: من البديهي أن مسيرة الإنجاز الجماعي تفتقر إلى مزيد الألفة وإلى الترابط العاطفي وإلى العمق الروحي بالأساس، وهي من المعاني التي نص عليها الأثر تلميحا وتصريحا في قوله تعالى : "رحماء بينهم"... "..ألّف بين قلوبكم"... "إنما المؤمنون إخوة.." "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا.." كما أكدت السنّة هذا الجانب : "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى.." "إن الإيمان يبلى كما يبلى الثوب، ألا فجددوا إيمانكم بملاقاة بعضكم البعض.." هذا العمق المنشود لا توفره اللقاءات الإدارية المَوْسومة بطابع الروتين، ولا الوقفات الآنية في أروقة المساجد ، أو على الأرصفة ولا التواصل الافتراضي "الفايسبوكي" السطحي والمقتضب والذي يغلب عليه الطابع الإعلامي الانفعالي والمرتجَل، في حين أن السؤال المطروح هو الآتي : في هذا الزخم المتراكم من المشاغل الآنية والهموم اليومية والمتعلقة سواء بالشأن العام أو الخاص، هل نحن الآن في حاجة ماسة إلى استراحة المسافر..لاستكمال السفر ، استراحة جماعية تطبعها التلقائية بالأساس ..؟ نتحدث.. نتبادل الآراء..نسأل عن أحوالنا ..عن المستجدات..نحتسي شايا..نستمع إلى بعضنا وننظر إلى وجوه بعضنا..نتبادل مشاعر الفرح والألم..أو ربما نُمَحْور لقاءاتنا حول جملة من مسائل نتفق عليها مسبقا من فكر أو سياسة أو ثقافة..وما أيسر أن نحدد رزنامة في ذلك ونحن ننتمي إلى حركة مفعمة بالأفكار والمضامين...؟ وفي تجديد اللقاءات تجديد للإيمان، وفي تجديد الإيمان تجديد للعزائم والهمم وتحفزا نحو الانجاز الأجدى والأمثل .. في الماضي القريب كان يحَجّر علينا الالتقاء حتى في الأعياد.. ونفتعل المناسبات التي تُفْضي إلى لمّ الشمل، من قبيل الختم القرآني والعقيقة والوكيرة . كانت من الأماني الغالية أن يلتقي "الأخ بأخيه" ولو لِلحظات على قارعة الطريق أو خفية وراء الأبواب الموصدة.. واليوم وفي هذا الظرف الوجيز و"المؤقت" بما يتسم به من ملامح الانفراج، يُطرح السؤال: هل من سبيل للتّدارك ؟ لدينا اليوم مقرّات قانونية وعلنية هي بمثابة فضاء فسيح يتّسع للكثير..هل من سبيل لتوظيفها التوظيف المناسب والمحكم ، وأحسب أنه باستثناء اللقاءات النادرة تشكو الآن شغورا ظاهرا لا يتناسب حتى والمصاريف التي تبذل من أجلها هذا الشغور المكاني يضاف إليه الشغور الزمني متمثلا في أمسيات أيام الأحد..وهي فترة تتسم عادة بالفراغ النسبي لدى فئات واسعة من الشباب و لدى الأسر والعائلات من مختلف الأعمار..غالبا ما تُنقضي هذه الفترة أمام الشاشات بأصنافها أو في الملاعب أو في شكل أمسيات عائلية..والكل يسترجع الأنفاس استعدادا لبداية أسبوع كادح.. أليس من الضروري والأكيد أن يقع توظيف هذا الفراغ إلى أبعد الحدود وذلك بالمبادرة وبالإصرار على إرساء تقاليد فردية وجماعية بالتوجه دوريا إلى "مقر النهضة" للتمتع بجلسات مؤنسة نستعيض فيها الفراغ السّلبي، والمقنّع أحيانا،بما سبق أن ذكرنا من مضامين تلقائية أو متطوّرة.. ألا يحق لنا ذلك شرعا وقانونا..؟ أليس من حق كل حزب أن يثقف أنصاره ويأطرهم..؟ قد نجد الاستعداد لدى البعض وقد لا يتجاوب معنا البعض الآخر..لكن في النهاية وبالتدرج يصبح الحضور والتواجد الجماعي خلال هذه الأمسيات اللذيذة والمؤنسة رغبة شيّقة لا يمكن التخلص منها وموعدا ينتظر الجميع حلوله بلهفة وإصرار ومحطة منتظرة لا يمكن تناسيها.. إن توظيف "الأمسيات الأحدية" للتسلية الجماعية الهادفة والمفيدة هي تجربة حاصلة ومسلّم بها واتّضحت فوائدها في العديد من الأقطار العربية أو الأوربية على السواء كما أثبتت نجاعتها وجدواها على كل المستويات المنتظرة : تكوينا، وتأطيرا، وكسرا للفوارق بأصنافها، اجتماعية كانت أم فكرية أم مذهبية، ورفعا للفواصل النفسية والفكرية بين الأفراد والمجموعات.." ألا فجدّدوا إيمانكم بملاقاة بعضكم.." فضلا عن ترسيخ مشاعر الأنس والتآزر والمساندة المتبادلة ماديا ومعنويا وهي مشاعر كانت السلطة الباغية تعمد وبسابقيه الإضمار إلى استئصالها وتجفيف منابعها بهدف التدمير الشامل لكياننا معنوياتنا.. هذا التجمع يكون بمثابة اللقاءات أو الدروس العامة التي كانت تحصل سابقا ، وهي بمثابة مشروع تنمية تنجزه الحركة بحيث تكون الدعوة مفتوحة ويكون باب التأطير مفتوحا أيضا باتجاه الاستفادة من الخبرات والاختصاصات الوافدة والتي قد تضفي على الحركة مزيدا من السعة والتنوع، وإضافات لسنا قادرين على تقدير حجمها أو رسم حدودها.. ألسنا نحمل فكرا ثريا وثقافة واسعة وتجربة ضالعة في التوجيه وفي التأطير.؟ أليس من الحكمة أن نستفيد من هذه الخبرات ونؤ طرها، ولا نتركها تضيع سدى، وهذا إنجاز ملزِم لنا في كل الظروف "لئن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من حمر التعم" وفي هذا الظرف بالذات..وهو في اعتبارنا أنسب ظرف عرفته تونس في تاريخها الحديث.. أهمية المبادرة: أحسب أن أهمية هذه المبادرة تندرج حصرا في إطار مستلزمات الواقع الجديد الذي نعيشه اختيارا واضطرارا..واقع يستقطبه حسب تقديري أحادية البعد السياسي أو أحادية السلم العمودي في علاقاتنا والذي يقوم على معادلة الإسقاط من ناحية ثم التلقّي من ناحية أخرى وذلك على حساب عمق المودة وخفض الجناح ومتانة التواصل كما يقوم على حساب الفضاء الأفقي الواسع الثري والمتلون بِقيم الترابط الوثيق ليس بين العقول فقط ولكن بين القلوب أيضا..بل هنا ك من يذهب إلى أبعد من هذا الطرح ويقترح محطات ومنعرجات نحو القيام والصيام والتهجد والاعتكاف.. لكننا نقدم هذا المقترح في حدود المؤقت والمتاح.. وبذلك نكون قد أخذنا بأسباب التلاقيح اللازمة لحماية أنفسنا من فيروسات القوالب الإدارية التي يترتب عليها شئنا أم أبينا، عن إدراك أو عن غير إدراك طابع الجفاف وتكلس المشاعر وتبلّد العاطفة وحدّة الطباع والميل الفطري إلى التقوقع والتموْقع على كرسي البروز أوالوجاهة واتّشاح المسِؤولية وزخارفها بما يعادل ذلك من "تقديس الشارات والرتب التي تزين الكتفين"عند "الآخرين.." تجديد الإيمان ضرورة والأخذ بأسباب الإنجاز واجب..والتقصير في ذلك أو الإهمال أو التأجيل أو التغاضي أو التعلل بما هو أهمّ..كلها مسالك تؤهل "الشيطان السياسي" الكامن في أعماقنا إلى اختراق نسيجنا بشراسة، كما تُفضي حتما وبالتدرج إلى الخطإ السّيئ الذي لا تنجرّ عنه إلا الأخطاء الأسوأ..وما أحوجنا إلى تجنّبها.. نحن قطعا قادرون على ذلك..وبلا كلفة تُذكر..إذا توكلنا على الله واعتمدنا على توفيقه..