من " الميثاق " إلى " المخطط " : " إن الله لا يصلح عمل المفسدين " بقلم خالد ناصر الدين تعودت وزارة التربية الوطنية في بداية كل موسم دراسي على الترويج لشعار من الشعارات المستمدة مما سمته زورا وبهتانا ب " الميثاق الوطني للتربية والتكوين " ، وهكذا ملأت الدنيا وشغلت الناس بالحديث ذات سنة عن" الجودة " ، وذات سنة أخرى عن " السلوك المدني " ... وظلت تصم آذانها عن صراخ المنتقدين الرافضين ، وتعمي أبصارها عن واقع التسيب والفوضى والضياع الذي يعتبر أهم ما يميز مختلف أسلاك التعليم في المملكة السعيدة ، إلى أن انكشف أمر لعبة النعامة التي ظلت تلعبها قرابة عشر سنين ، وذلك بعد صدور تقرير المجلس الأعلى للتعليم ، وهو التقرير الذي كشف المستور ، ودق ناقوس الخطر ، ونادى لو أسمع حيا ... وبعد لحََُيظات من الصمت الناطق ، عادت حليمة إلى عادتها القديمة ، فرفعت الوزراة المحترمة شعارا آخر يستحق أكثر من وقفة : " جميعا من أجل دعم مدرسة النجاح " ، وذلك في إطار جديد اصطلحوا على تسميته ب : " المخطط الاستعجالي لإصلاح التعليم (2009 _ 2012 ) تحرك " الميثاق " فولد فشلا ذريعا : لا نجد غضاضة في التذكير بالأرقام الصادمة التي تكشف حقيقة مأساة التعليم في المغرب : ف40% من التلاميذ لا يكملون دراستهم ، إذ غادر مقاعد الدرس أكثر من 380 ألف طفل قبل بلوغهم 15 سنة عام 2006 . و 80 % لا يفهمون ما يدرس لهم ، و 16 % فقط من تلاميذ الرابع الابتدائي يستوعبون المعارف الأولية لجميع المواد المقدمة لهم . واحتلت هذه الفئة من التلاميذ مراتب متأخرة في الاختبار الدولي للرياضيات عام 2003 حول 25 دولة واحتلت المرتبة ال 24 في مادة العلوم ، بينما احتل تلاميذ الثانوي المرتبة ال 40 على 45 ، وأكثر من نصفهم لم يحصلوا على النقاط الدنيا . وتشير إلى هذا الانهيار دراسة للبرنامج الدولي للبحث حول القراءة أجريت عام 2006 ، إذ احتل تلاميذ الفصل الرابع ابتدائي المرتبة ال 43 على 45 ، وربعهم فقط وصلوا للمستوى الأدنى المطلوب . وصُنِّفَ تلامذة المدارس الابتدائية في المغرب في المرتبة الأخيرة في العلوم والقراءة ، وقد أثبت البرنامج الدولي لقياس مدى تقدم القراءة في مدارس العالم ( بيرلز ) ومقره كيبك في كندا أن أداءهم تراجع عام 2006 عما كان عليه قبل خمس سنوات ، وبالمقارنة مع الدول المجاورة يبدو المغرب في موقع التلميذ البليد وقد دعت منظمة اليونسكو الرباط إلى " تغيير جذري في سياستها لضمان التعليم للجميع عام 2015 " . وقال بلفقيه : " إن النفقات التي يكلفها التلميذ المغربي تبلغ 525 دولارا في السنة ، مقابل 700 في الجزائر وأكثر من 1300 في تونس " . ومن بين مئة تلميذ في الصفوف الابتدائية لا يواصل منهم سوى 13 فقط الدراسة حتى الحصول على شهادة البكالوريا عشرة منهم يعيدون الصف مرة على الأقل . تناول أيضا وضعية المدرسين ومدى مسؤوليتهم ، وخلص إلى أنهم " ضحايا ومسؤولون " في الوقت نفسه مؤكدا أنهم بحاجة إلى تكوين مستمر وأن العاملين بالقطاع الخاص يلجونه دون أي تكوين . وتثير الوزارة الانتباه أيضا إلى أن النسبة المرتفعة لاكتظاظ التلاميذ في الفصول من أبرز أسباب الفشل ، إذ يصل المعدل إلى 41 تلميذا بكل فصل . كما ترجع هذا الاكتظاظ إلى قلة في البنايات الجديدة وفي المدرسين ، فالحاجة إلى الفصول الإعدادية مثلا تصل إلى 260 مؤسسة سنويا بينما لا تبني منها الدولة سوى تسعين كل عام . استمرار تهالك البنى التحتية مع اعتبار تسعة آلاف قاعة صف غير صحية ولاسيما في المناطق الريفية حيث لا يصل التيار الكهربائي إلى 60 % من المدارس و تفتقر 75 % منها إلى مياه الشرب وأكثر من 80 % ليس بها مرافق صحية . " ألا إنهم هم المفسدون ، ولكن لا يشعرون " : كان حريا بالمسؤوليين عن قطاع التعليم ببلادنا أن يطأطؤوا رؤوسهم خجلا بعدما انكشف أمرهم أمام الملأ ، وظهر للعيان زيف وخداع الشعارات البراقة التي طبلوا لها وزمروا طويلا ، كان حريا بهم أن يفروا بجلودهم من هذا الوطن الذي لن يغفر لهم أبدا الجرائم البشعة التي ارتكبوها في حق أطفاله وشبابه ، كان حريا بهم أن يختفوا عن الأنظار لأنهم ظلوا يكذبون ويكذبون و " مازال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا " ، كان حريا بهم _ لو كانت لديهم بقية مروءة أو إنسانية أو حياء _ أن يعتذروا للشعب عن كل ما ارتكبوه ، رغم أن الاعتذار لن يرجع مما ضاع شيئا ... للأسف الشديد لم يفعلوا شيئا من ذلك ، ولن يفعلوا لسبب بسيط هو أن الكذب والخداع صارا موضة تلوكها الألسن ، ويرددها المسؤولون في كل القطاعات " الشباب والرياضة ، العدل ، التنمية الاجتماعية والأسرة والتضامن ، النقل ، السياحة ، الفلاحة والصيد البحري ، الصحة ، الثقافة ... " ... أكثر من ذلك لم يجد مزيان بلفقيه وهو رئيس اللجنة التي كُلِّفت بوضع " الميثاق الوطني للتربية والتكوين " أدنى حرج في تأكيد ما ورد في تقرير " المجلس الأعلى للتعليم " ، يقول : " وضعنا برنامج الأممالمتحدة الإنمائي في المرتبة 126 من أصل 177 بلدا على صعيد التنمية البشرية والتعليم المدرسي هو سبب هذا التصنيف " وتابع " إننا نخسر عمليا ثلث تلاميذنا مع كل مرحلة دراسية ... على طول المسار الدراسي من المدرسة الابتدائية إلى الجامعة " ، هكذا يتكلم صانعو الأزمة بكل برودة وبكامل الحيادية ، كأن الأمر لا يعنيهم ، أو كأن الأزمة صنعها آخرون ... إنهم من هم يا ترى ؟ هؤلاء الذين يخادعون الله وأجيال الأمة ، هم المفسدون الذين يملأون الدنيا فسادا ، وإذا " قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون " ... رجل التعليم : بين المطرقة والسندان لعل أكبر من يشعر بلعبة التمويه والخداع هذه ، هو رجل التعليم الذي يعتبر جندي الحدود بلا منازع ، ذلك أنه ومن خلال احتكاكه المستمر مع التلاميذ ، ومن خلال تواصله اليومي معهم ، يقف على حقيقة المشاكل التي يتخبطون فيها ، كما يقف على حجم الثغرات التي تخترق مسيرتهم العلمية ، ويقف من خلال ذلك على زيف لادعاءات التي تتحدث عن الجودة والسلوك المدني والقيم والكفايات وغير ذلك من الخدع التي تم الترويج لها ذرا للرماد في العيون ... ولأنه ممنوع من التعبير ، كما أنه ممنوع من المشاركة في صناعة القرار ، فإنه لا يملك إلا أن يجتر معاناته في صمت مر قاتل ، إنه الحلقة النابضة التي تربط بين هيئات عليا مسؤولة عن البرمجة والتوجيه والتخطيط وصناعة القرارات التربوية والبيداغوجية ، وبين التلاميذ الذين يكونون ملزمين بالخضوع للقرارات والتوصيات والتوجيهات التي تصدرها الجهات المسؤولة ... وبحكم هذا الموقع الحساس فإنه دون غيره يستطيع كشف حجم الفصام النكد الذي يسم العلاقة بين الواقع والشعارات ، بل إنه يستطيع الوقوف من خلال عمله اليومي على جملة من الحقائق : ← الأكيد أن واضعي البرامج والمناهج في وزارة التربية الوطنية لا يعرفون شيئا عن الواقع المعيش للتلميذ المغربي ، ولا عن حاجاته النفسية والاجتماعية والمعرفية ... ← الأكيد أيضا أنهم يتجاهلون وجود فوارق طبقية فاحشة في المجتمع المغربي ، ومعلوم أن الانتماء الاجتماعي/الاقتصادي للطفل يلعب دورا كبيرا في تشكيل شخصيته ، وفي بلورة حاجياته وطموحاته وأحلامه ... ← لا تعير الجهات المسؤولة أدنى اهتمام لآراء وملاحظات رجل التعليم ، والدليل على ذلك أنها صاغت ما سمته " الميثاق " دون أن تعطيه أدنى فرصة المشاركة ولا حتى التعبير وإبداء الرأي ، كما أنها لا تأخذ بعين الاعتبار مختلف الملاحظات المنهجية والمعرفية التي يتم تسجيلها في تقارير المجالس التعليمية ... لا غرابة إذا أن يتنفس رجل التعليم الصعداء بعد صدور التقرير/ القنبلة ، وهو إذ يفعل ذلك لا يفعله تشفيا ، بل يفعله لأنه وجد أخيرا متنفسا يترجم المرارة التي ظل ينوء بثقلها وحيدا دون أن يقوى على البوح بها ، ثم لأن ما كان سرا ثقيلا لا يكاد يتجاوز الحناجر والشفاه أصبح حديث الساعة بامتياز ، ولأن هؤلاء المسؤولين الذين كانوا يعتبرونه مجرد آلة مطالبة بتنفيذ البرامج وقعوا في مأزق حرج بعدما انكشف أمرهم أمام الناس أجمعين ... " المخطط الاستعجالي : " بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم " الأحقاف 24 إن تاريخ التعليم في المغرب منذ الاستقلال تاريخ أزمة بامتياز ، فبين الرغبة في التشبت بهوية وثوابت الأمة وبين الإعصار الفرانكفوني الجارف ، ظلت الأجيال تخضع لسلسة من " المحاولات " الفوقية التي ظلت تظهر بمظهر الساعي إلى إصلاح التعليم ، وكانت آخر هذه المحاولات " الميثاق الوطني للتربية والتكوين " الذي باء تطبيقه بالفشل الذريع لأٍسباب كثيرة لعل أهمها : ← إسناد صياغته بنوذه إلى لجنة يترأسها مستشار ملكي لا يرد عليه ، وخبرته في الطرق والأشغال العمومية لا تعدلها خبرته في التربية والتعليم ! ← تغييب رجال التربية والتعليم بشكل مطلق رغم أنهم يشكلون قلب المسألة التعليمية النابض بلا منازع . ← فصل التربية عن التعليم وربط هذا بمحيط غير محيطه الطبيعي ، إذ المحيط الإيجابي الذي ينبغي ربط التعليم به هو محيط التربية السليمة . وبعد هذه الجعجعة التي لم تثمر إلا طحين الأمية والبطالة والخراب والضياع واليأس ، لم يتوقف سيل " الإصلاحات " الفوقية بعد ، بل إنها اتخذت هذه المرة صبغة استعجالية وكأن الأمر يتعلق بإنسان مريض أُدْخِلَ على وجه الاستعجال إلى غرفة العناية المركزة ، ومع أن المريض عندما يصل إلى هذه الحالة المستعصية الخطيرة لا يستطيع الأطباء الحسم في أمر مصيره ولا في المدة التي سيقضيها هنالك ، فإن الجهات المسؤولة قررت أن تخضع التعليم المغربي ( المرتب في المرتبة الأخيرة بالنسبة لدول المغرب العربي ، وضمن الأربع دول أخيرة على مستوى العالم العربي ) لمخطط استعجالي في ثلاث سنوات ، وهو مخطط محكوم عليه بالفشل مسبقا لاعتبارات كثيرة نذكر منها : ← إن التعليم جزء لا يتجزأ من منظومة عامة يتداخل فيها ما هو سياسي بما هو اقتصادي ، وما هو اجتماعي بما هو ثقافي ، مما يعني أن إصلاح التعليم لا يمكن أن يتم بمعزل عن كل هذه القطاعات ، بل إن إصلاح كل هذه القطاعات رهين بإصلاح التعليم ، باعتباره العين المتدفقة التي تمد شرايين الدولة بما تحتاجه من كفاءات وأطر قادرة على تحمل المسؤوليات ... ← التعليم والاستعجال لا يلتقيان أبدا لسبب بسيط هو أن ثمار التعليم لا تظهر إلا على المدى البعيد ، إن المسألة مسألة أجيال بالضرورة ، ومعلوم أن ما أفسدته العقود والأعوام لا تصلحه الليالي والأيام ، فما الذي يمكن إنجازه خلال ثلاث سنوات غير المزيد من العبث والارتجال ، ارتجال تمثل في تكليف حملة الشهادات العليا ( DESA ) ، وكذا المجازين الناجحين في المباريات بالتدريس بشكل مباشر بعد إخضاعهم لتكوين شكلي مستعجل لم تتجاوز مدته أسبوعا واحدا ، علما بأن عملية النقل الديداكتيكي تعتبر من أعقد وأصعب المهمات التي يضطلع بها رجل التعليم ... ← يعيد هذا " المخطط " الأخطاء نفسها التي وقع فيها " الميثاق " ، فمازال المستشار الملكي مزيان بلفقيه الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للتعليم هو المشرف عليه ، ومازال رجال التربية والتعليم مغيبيين ، وما زال الفصل بين التربية والتعليم قائما ، ومازالت الشعارات البراقة من قبيل (تأهيل المؤسسات - الجودة – محاربة الهدر - المقاربة بالمشروع – الكفايات...) تتردد ... مما يعني أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد تغيير في الأسماء لا أقل ولا أكثر ... ← نتساءل بمرارة واستغراب كيف يمكن سد الخصاص المهول في الأطر والبنيات التحتية في كافة مستويات التعليم خلال ثلاث سنوات ، مع أن وسائل تحقيق الإصلاح هزيلة إن لم نقل منعدمة ... جعجعة أخرى ولا أرى طحينا ؟؟ ← لقد حدد البرنامج الاستعجالي 23 مشروعا موزعة على 4 مجالات ، ولعل المتأمل لهذه المشاريع سيتوصل إلى أن البرنامج يعزف على نفس الوتر الذي عزف عليه الميثاق وهي توصيات البنك الدولي حيث نجد : ◄ تشجيع القطاع الخاص ◄ الإجهاز على المجانية كما يتضح من خلال مجموعة من النقط منها : * تنصل الدولة من ضمان حق التمدرس بعد 15 سنة * تخلي الدولة عن التعليم لفائدة الخوص . * تخلي الدولة عن التعليم الأولي لفائدة الخواص. * عدم تحمل الدولة لمسؤوليتها بشكل واضح في تمويل التعليم ◄ الهجوم على مكتسبات الشغيلة التعليمية وذلك بسن إجراءات خطيرة من بينها : * التوظيف على أساس التعاقد أي بكل بساطة ضرب حق الموظف في الاستقرار والترسيم * إدخال مفهوم المدرس المتحرك الذي يقوم على تعيين المدرسين بحسب الجهة وليس بحسب المنطقة أو المؤسسة. * إقرار المدرس المتعدد التخصصات أو المزدوج. * العمل بساعتين إضافيتين إجباريتين. * إضافة مسؤوليات وأعباء جديدة للمدرسين. خلاصة القول إن " المخطط الاستعجالي " لعنة جديدة تضاف إلى سلسلة اللعنات التي صبت على قطاع التعليم بالمغرب ، إنه خديعة أخرى تضاف إلى قائمة الخدع التي عرفها تاريخ التعليم المغربي منذ الاستقلال إلى الآن ، بل يمكن القول إنه أخطرها وأشدها ضراوة على الإطلاق لأنه يستهدف الزج بأبناء الشعب إلى الشارع بعدما ستغلق المدرسة العمومية أبوابها في وجوههم ، والأكيد أن الحق في التعليم حق يجب أن ينتزع لأن التاريخ يعلمنا أن الحق ينتزع ولا يعطى ، كما أن التاريخ يعلمنا أن الاستبداد لا يضمن لنفسه الاستمرار إلى في أجواء الجهل والأمية حيث يسهل عليه سوق " الرعية " بكل سهولة ... لذلك فقد آن الأوان لوقف هذه المسرحية المخجلة ، إذ الواجب يحتم على الأمة كسر طوق هذا الاستبداد ، حتى تتصالح الأمة مع ذاتها ، وحتى تستشق عبير الحرية والعدل والكرامة ، إذ لا تقدم ولا إصلاح يرجى إلا في هذه الأجواء التي تحترم كرامة الإنسان ...