محمد القرماسي / تونس/ عندما استعمل الدكتور أبو يعرب المرزوقي عبارة " البقايا الخمس " للدلالة على الأطراف التي ما تزال تؤدي دورها الذي كانت تلعبه زمن الدكتاتور، كان كمن يحذرنا من خطورة ما قد تنتجه هذه الأطراف من ثورة مضادة دفاعا عن مصالحها التي أطاحت بها الثورة التونسية، واستعمل عبارة بقايا للدلالة رمزيا، ربما، عن وضاعة السلوك الذي قد يأتيه هؤلاء لتعطيل الانتقال الديمقراطي الذي ينشده التونسيون اليوم. أما وقد قطعت تونس، بفضل نضال شبابها وإصراره، وضغط الأحزاب والجمعيات الوطنية،.. أشواطا مهمة في تصفية العديد من الملفات وإقرار خطوات هامة نحو انتخابات المجلس التأسيسي، فإن المحاولات المستمرة لإرباك المشهد السياسي والواقع الاجتماعي التي تحدث هنا وهناك لتصل ذروتها في أحداث القصبة وما نتج عنها ويتردد منها في عديد الجهات، يجعلنا نعود إلى التنبيه والتحذير مما يعد ليلا ونهارا لإفشال الثورة التونسية وإغراق البلاد في صراعات وتجاذبات الهدف منها أساسا رفع مستوى الشحن والتوتر بما يبرر الالتفاف على الثورة والنكوص بها إلى دكتاتورية جديدة. ولان الالتفاف والنكوص والثورة المضادة ...كلها أوصاف وتهم أصبحت في تونس اليوم ترمى جزافا كل حين، من الكل ضد الكل، دعونا نتجاوز ونترفع عن ذكر الأطراف والشخصيات والأحزاب والمرور إلى تشخيص الأفعال والمواقف التي تتهدد الثورة ومسارها ولن يصعب عندئذ معرفة من يشحن الأجواء باستمرار لإجهاض حلم العرب والعالم اليوم في الثورة التونسية. لسنا في حاجة إلى تعداد الأطراف التي ما تزال لها باقية، ترى هنا وهناك، وتأتي سلوكا أو تقول قولا ظاهره انتصارا للثورة وحبا لتونس وللديمقراطية، وباطنه ومنتهاه فتن وتهييج وتخويف ...بدا ينتج أجواء مشحونة بين التونسيين في مظاهر متعددة...وينتج إحباطا يتزايد وخوفا يتعمق لدى بعض المواطنين والشباب من حاضر تونس ومستقبلها ولكم أن تحصوا أحداث المتلوي وطبرقة والكاف وقفصة...وأحداث منزل بورقيبة وحي التضامن وحمام الاغزاز وبن قردان والحامة ودوز ...وغيرها. هل يعقل ان لا تكون لكل هذه الاحداث رابط ما يرجعها إلى السبب الحقيقي لتزايد التوتر واستفحال الأزمة السياسية؟ أليس هناك سلوك ما لطرف ما يدفع نحو اجهاض الثورة ويجب فضحه وبيان خطورته مهما كان مأتاه ومصدره؟ وهنا يمكن تصنيف المخاطر التي تتهدد الثورة والوفاق الوطني إلى ثلاث اتجاهات قد تصدر من أي طرف اليوم او غدا ولقد بدأنا نرى بعضها ، ولعل التنبيه إليها يقينا من استفحال أمرها وصعوبة علاجها: مؤسسات الدكتاتورية.. لا أحد ينكر أن المخلوع بن علي وأمثاله ممن أسسوا أنظمة دكتاتورية لم يكونوا ليحققوا ذلك لولا أن آزرتهم مؤسسات عمومية وهيئات سياسية وإعلامية وثقافية ومنظمات في مجالات مختلفة..اجتمعت على مناصرة الدكتاتور ونظامه لغاية او غايات مشتركة او مصالح تقاطعت مع بعضها البعض، وفي تونس لا يحتاج الأمر إلى تدقيق كبير فمناصري المخلوع في المؤسسات الإعلامية ومن طبلوا له في المحافل الدولية ونظروا له في الدراسات الجامعية اقتصاديا واجتماعيا ..هم أنفسهم من يواصلون اليوم الاشراف على المؤسسات الاعلامية العمومية ناهيك عن المؤسسات الخاصة وفرسان الإعلام الإلكتروني ...كذلك الشأن للعديد من الجمعيات الحقوقية والمنظمات الأهلية وخاصة الجمعيات "النسوية" والتي كانت بمثابة اللافتات الاشهارية لما يريد التجمع وعصابة القصر إظهاره من محاسنهم او انجازاتهم للمراة والمجتمع والناس أجمعين... هذه المؤسسات والكيانات والشركات والجمعيات وغير ذلك من التسميات...ما تزال تعمل وتنتج بنفس الأدوات والميكانيزمات فهل يعقل أن تكون قد تخلصت من إرثها من الولاء والرياء بهذه السرعة وبالتالي يكون لها هذا الدور الكبير والأساسي، ضمن الهيئة وعلى الساحة السياسية والإعلامية، في بناء تونس بعد الثورة؟ هل يؤمن جانبهم ان لا يشاركوا بقدر ما في الثورة المضادة وفي رفع دراجات التوتر ولو دفاعا عن صورتهم واخفاء لماضيهم وتفاديا لفتح ملفاتهم وما اقترفت أياديهم. أعداء الاختلاف... وهم قوم توطنت فيهم سياسات الإقصاء ورفض الآخر فلم يتبدل لديهم سوى مرجعية الرفض ومستند التخويف من الآخرين، فبعد أن كانوا يخوفوننا بأعداء تونس التغيير وأعداء مشروع 7 نوفمبر أصبحوا اليوم يكيلون نفس الاتهامات السابقة إلى نفس الأطراف باعتبارهم أعداء الثورة والديمقراطية....بينما يتقدمون، دون خجل ولا حياء، حماة للثورة والديمقراطية ناسين أو متناسين أن الشعب التونسي لم تمحى ذاكرته بعد الثورة وان الديمقراطية والقيم الإنسانية لا تجزأ ...هؤلاء مثقفون واكادميون، للأسف الشديد، فتشوا ونقبوا في مكاتبهم متمنين أن يجدوا نموذجا من الأنظمة السياسية في العالم وعبر التاريخ تجيز تطبيق الديمقراطية دون أن تحتمل أحد الخصوم آو بعضهم. ولذلك يبدؤون بالتخويف من معارضيهم وخصومهم، والتخويف مرفوض من الأساس لأنه وسيلة طالما استعملتها الأنظمة الديكتاتورية لحشد التأييد وتبرير إقصاء المعارضين، وهي أيضا وسيلة تهدد السلم الاجتماعي وتنشر الكراهية بين الشعب فتجعل الناس متحفزون يخاف بعضهم بعضا. بقايا الاستبداد... أناس آخرون يعيشون بين ظهرانينا ويشاركونا تفاصيل حياتنا لم يتخلصوا بعد من ولائهم، أو لم يتعودوا بعد على فك ارتباطهم بمرؤوسيهم في التجمع المنحل أو الإدارة، وقد زالت بعض أو كل مغانمهم وهم لذلك سباقون إلى الفتنة، مشككون في المستقبل، يزيدون الناس خوفا من الفقر والبطالة وفقدان الأمن.. فتراهم يتصيدون كل حادثة هنا وكلمة هناك ...ليحملوها ما يستطيعون من معاني الفوضى والعدوان والضغينة..وقد تتالت أحداث كثيرة ابتدعوها او زادوا إلى جذوتها ما استطاعوا من لهيب او صبوا عليها ما توفر لهم من زيت وحقد وتهييج وافتراءات وتكذيب. وهم على ذلك قائمين على استعداد لان يبذلوا كل شيء على قدر ما يحققونه من مكاسب. هؤلاء قد يوظفهم من يريد إرباك العملية الديمقراطية والتشويش على الانتخابات ولذلك فالحذر منهم مسؤولية مشتركة لكافة القوى الديمقراطية من أحزاب ومنظمات وغيرهم. من يطلب الضمانات؟؟؟ الديمقراطية والعيش المشترك لا يفترض الشروط والمصادرة على النوايا والأفكار ..فكما أن الثورة أوجبت العدالة بين كافة التونسيين وفرضت حقهم جميعا في المشاركة في رسم ملامح المستقبل المشترك فإن كل من يشكك في مبادئ الثورة ويعطل الوصول إلى أهدافها بوضع شروط للانتقال الديمقراطي يصادر فيها على نوايا الناس، أو يسقط عليهم هواجسه واختلالا ته الفكرية والنفسية، هو من عليه تقديم الضمانات أن لا يعود بالبلاد إلى الاستبداد وسلب الناس حرياتهم. ولو جاز لأحد أن يشكك في المستقبل ويطلب ضمانا لعدم النكوص والتراجع عن استحقاقات الثورة، فإنهم لا شك من تجرعوا كؤوسا من القمع والتنكيل سنين طوال ..ولكن عدالة الله عز وجل وما حققته الثورة التونسية المباركة أنتج عدالة انتقالية يجب ترسيخها والتوافق عليها فنجعل من الانتقال الديمقراطي طريقا ذا اتجاه واحد لا عودة فيه ولا سقوط..وليس ذلك على الشعب التونسي بعزيز لو آمن بقدراته التي فاجأ بها العالم وجعل ثورته نبراسا يحتذى....