في رحاب كتاب "مدارج السالكين" للإمام بن القيم رحمه الله تعالى
بقلم أحمد بوعشرين الأنصاري
الحلقة التاسعة عشرة حول منزلة الفرار إن الحمد لله نحمده و نستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا وأصلي وأسلم على الحبيب المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم، وبعد فإني أتقدم إليكم بهذه الكلمات /النفحات من قلب كتاب مدارج السالكين للعلامة الشيخ ابن القيم رحمة الله عليه راجيا من الله أن تنفعنا جميعا هذه الكلمات وان نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. نستكمل بإذن الله حلقاتنا استئناسا بتذكرة "مدارج السالكين" للإمام الشيخ ابن القيم رحمه الله. ومن منازل العبودية، منزلة الفرار وذلك أن العبد إما مقبل على الله تعالى فارا إليه سبحانه قاصدا رحمته وعفوه ومحبا للقاءه، قال الله تعالى: (ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين ) سورة الذاريات آية 50. " أي فروا من معاصيه إلى طاعته . وقال ابن عباس : فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم . وعنه فروا منه إليه واعملوا بطاعته..." تفسير القرطبي، وإما مدبر على الله تعالى. والمقبل على الله تعالى طاعة وشوقا وحبا تكون له منزلة عظيمة عند الله تعالى، والمدبر على الله تعالى زاد بعدا عن الله، ذلك أن من أحب لقاء الله أحب لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه كما أخبرنا الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام حيث يقول في حديث رواه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: " من أحب لقاء الله ، أحب الله لقاءه . ومن كره لقاء الله ، كره الله لقاءه . قال فأتيت عائشة فقلت : يا أم المؤمنين ! سمعت أبا هريرة يذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثا . إن كان كذلك فقد هلكنا . فقالت : إن الهالك من هلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم . وما ذاك ؟ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أحب لقاء الله ، أحب الله لقاءه . ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه ، وليس منا أحد إلا وهو يكره الموت . فقالت : قد قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم . وليس بالذي تذهب إليه . ولكن إذا شخص البصر ، وحشرج الصدر ، واقشعر الجلد ، وتشنجت الأصابع . فعند ذلك ، من أحب لقاء الله ، أحب الله لقاءه . ومن كره لقاء الله ، كره الله لقاءه .". فرار من الجهل إلى العلم النافع والعمل به ومن الفرار إلى الله الفرار من الجهل الذي هو عدم العلم النافع وعدم العمل بهذا العلم أيضا، إلى طلب العلم النافع والعمل به، "فالفرار المذكور: هو الفرار من الجهلين، من الجهل بالعلم إلى تحصيله اعتقادا ومعرفة وبصيرة، ومن جهل العمل إلى السعي النافع والعمل الصالح قصدا وسعيا" انتهى كلام بن القيم؛ فرار من داعي الكسل إلى داعي العمل والتشمير بالجد ومن الفرار إلى الله الفرار من داعي الكسل والتسويف والفتور والتهاون والتماطل إلى داعي العمل الصالح والعزم على الجد الذي هو صدق الإرادة والجد الذي هو صدق العمل، ذلك أن "الجد هاهنا هو صدق العمل، وإخلاصه من شوائب الفتور ووعود التسويف والتهاون، وهو تحت السين وسوف وعسى ولعل، فهي أضر شيء على العبد، وهي شجرة ثمرها الخسران والندامات" انتهى كلام بن القيم؛ فرار من ضيق الصدر بالهموم إلى سعة فضاء الثقة بالله سبحانه وتعالى ومن الفرار إلى الله الفرار من ضيق هموم الدنيا وأحزانها وملذاتها ومغرياتها والمصالح الذاتية، إلى سعة الأفق حيث الارتباط بالآخرة ونعيمها والجد في تحصيل كل عمل يقربنا إلى هذا النعيم، والارتقاء بالذات نحو المثل العليا حيث نكران الذات والإيثار على النفس وتغليب المصالح العامة على الخاصة، واعتبار متاع الدنيا زائل ومتاع الآخرة دائم، ولا يتم كل ذلك إلا بتقوى الله وخشيته والتقرب إليه بالطاعات وتذكر وعده ووعيده سبحانه، والتوكل عليه، يقول الله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) سورة الطلاق آية 3 " أي من فوض إليه أمره كفاه ما أهمه . وقيل : أي من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه ، فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية" تفسير القرطبي، فحسب المرء أن تكفيه الثقة بالله وحسن الظن به في مصائبه وهمومه، ذلك أنه "كلما كان العبد حسن الظن بالله، حسن الرجاء له، صادق التوكل عليه، فإن الله لا يخيب أمله فيه ألبتة، فإنه سبحانه لا يخيب أمل آمل، ولا يضيع عمل عامل. وعبر عن الثقة وحسن الظن بالسعة. فإنه لا أشرح للصدر ولا أوسع له بعد الإيمان من ثقته بالله ورجائه له وحسن ظنه به" انتهى كلام بن القيم؛ فرار من رسوم الأعمال إلى أصولها ومن حظوظ النفس إلى تجريدها فأما رسوم الأعمال وظواهرها فهي -وإن كانت واجبة ولا يجوز تعطيلها- فهي غير كافية لوحدها دون أن تكمل بحقائقها ومقصودها، بل الصواب أن يجمع بين رسوم الأعمال وحقائقها فلا تعطيل لجانب على جانب، فكما على الجوارح عبودية فإن على القلب أيضا عبودية، ذلك " أن تعطيل عبودية القلب بمنزلة تعطيل عبودية الجوارح" انتهى كلام بن القيم. وأما الفرار من حظوظ النفس إلى تجريدها، فأهل الإيمان هم العارفون بحظوظ النفس وآفاتها، "وبالجملة فصاحب هذا التجريد لا يقنع من الله بأمر يسكن إليه دون الله، ولا يفرح بما حصل له دون الله، ولا يأسى على ما فاته سوى الله، ولا يستغني برتبة شريفة وإن عظمت عنده أو عند الناس فلا يستغني إلا بالله، ولا يفتقر إلا إلى الله، ولا يفرح إلا بموافقته لمرضاة الله، ولا يحزن إلا على ما فاته من الله، ولا يخاف إلا من سقوطه من عين الله واحتجاب الله عنه، فكله بالله وكله لله وكله مع الله وسيره دائما إلى الله..." انتهى كلام بن القيم جعلنا الله وإياكم من الفارين إلى الله سبحانه ومن المتجردين من دواعي الكسل والهوى والنفس الأمارة بالسوء إلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى، ومن الذين يعبدون الله بقلوبهم كما بجوارحهم صدقا وإخلاصا، آمين.
وإلى اللقاء بحول الله في الحلقة القادمة مع منزلة السماع