تمكنت القوائم المستقلة لتيار العريضة الشعبية للحرية والعدالة والتنمية التي تعمل لحساب الدكتور الهاشمي الحامدي صاحب قناة "المستقلة" من حصد عدد كبير من المقاعد في انتخابات المجلس التأسيسي و حققت بذلك مفاجأة الموسم الانتخابي..جعلت النخبة التونسية تحار في أمرها وتقدم تفاسير متضاربة و لعل المقاربة التي يقدمها هذا المقال ستكون مساهمة تنير بعض جوانب الموضوع لأنه قد يكون توفر لصاحبها من الوقت ما لم يتوفر لغيره الذين استغرقتهم الحملة الانتخابية أكثر مما استغرقته ..
1 أفكار رائجة في تفسير الظاهرة
بسبب تأثير المفاجأة الغير منتظرة و لكل انتخابات مفاجآتها التي ينتجها المناخ المسيطر فيها فيحدد الأفكار السائدة و الإنتظارات العامة و المناهج الغالبة في التحليل .. أصيبت نخبنا السياسية بمختلف توجهاتها بالصدمة و هي تتابع النتائج و خاصة تفوق القائمة في دائرة سيدي بوزيد التي اختارتها حركة النهضة ، الفائز الأكبر لانطلاق حملتها الانتخابية ،بينما فشلت قائمات أخرى كنا نظن أنها استكملت استعداداتها و استوفت شروط النجاح . تأثير الصدمة خاصة في الأوساط التي كان حظها من النجاح محدودا أطلق العنان لردود فعل غاضبة وتشنجات مفهومة و مواقف عدائية و تسجيل طعون يرى أصحابها أنها جدية لا نملك إلا أن ننتظر رأي القضاء فيها .
تتلخص هذه الأفكار في اتهام أنصار العريضة باعتماد خطاب شعبوي يقدم وعودا خيالية وغير قابلة للتطبيق مما يعني بوجه من الوجوه مغالطة الناخبين و الاستهانة بذكائهم . و استفادة هذه القوائم من رواسب العروشية التي جعلت الناخبين في دائرة سيدي بوزيد موطن الهاشمي الحامدي و امتداداتهم في الساحل و بقيه الدوائر يصوتون لهم ..و انصبت على صاحب العريضة تصفه بأقذع الأوصاف و تقدمه على أنه الدكتاتور القادم من وراء البحار, ليجدد حكم صديقه بن علي ، ثم دخلت أسماء ذات مصداقية كبيرة على الخط مثل المناضلة سهام بن سدرين و الأستاذ محمد عبو و الصحفي سمير الوافي و غيرهم فتحدثت عن تورط الحامدي في قضية فساد كشفت أن من مصادر تمويل قناته وكالة الاتصال الخارجي الدعائية في عهد بن علي , و زادت على ذلك أنه مدعوم بشكل خفي من التجمعيين الذي رأوا فيه واجهة مقبولة و منقذا لهم بعد سقوط سلطانهم فأبرموا معه صفقة بموجبها يتعهد لهم باستعادة نفوذهم و يعدونه بتولي الرئاسة التي يحلم بها منذ زمان مقابل تقديم التمويل اللازم لحملته و الترويج لقائماته في صفوف بقايا التجمع في المدن و الأرياف ...
2 محاولة في الفهم ..
بعيدا عن كل هذا الضجيج نحسب أن نجاح هذه القوائم في حصد ذلك العدد الكبير من المقاعد هو ظاهرة جديرة باهتمام الباحثين و لعله من قبيل استكمال البحوث المرتبطة بالثورة التونسية تناول هذه الظاهرة و كشف خباياها و لا يزعم صاحب المقال أنه سيفعل ذلك ، حسبه تقديم أفكار قد تساعد على إنارة السبيل ..
على عكس قطاع واسع من النخب السياسية التي لا زالت تعيش تحت وقع الصدمة , أزعم أنه لم تفاجئني النتائج التي حصلت عليها تلك القوائم بل أنني كنت أخشى أن تكون نتائجها أحسن ,,لأنه في كل المجتمعات نجد شرائح ليس من الممكن تقدير حجمها تستهويها مثل هذه الشعارات و كنت أتابع السيد الهاشمي وهو يشحد همم أعضاء تلك القوائم و يركز على مضمون العريضة ذات النقاط القليلة و الواضحة فيبين للمستمعين أنه الوحيد الذي تسهل محاسبته لأنه يعد بتحقيق مكاسب يسميها ثورية و يربطها بأجل معين " غرة نوفمبر" ..و من خلال ذلك يمكن للمشاهد أن يرصد سير حملته الانتخابية و أثرها في الواقع .و أزعم أن التسعين دقيقة التي خصصت لهذه القوائم في القناة الوطنية و التي كان مضمونها محل استهجان النخب التونسية قد أفادت تلك القوائم كأحسن ما يكون لأنها تتردد بنفس الوعود فتستوعبها تلك النوعية من الناخبين ..و ليس في ذلك غرابة فيكفي أن ندرس العمليات الإنتخابية التي تجري في الدول الأوروبية العريقة في الديمقراطية والنسب التي تحصل عليها الأحزاب اليمينية الشعبوية لنكتشف هذه الحقيقة ..
لذلك لا تقنعني التفاسير الذي ترجع الأمر إلى الصفقات الخفية التي لا أنفيها مطلقا و لكن أحسب أنها تتغذى من الهواجس التي تنتشر بين التونسيين الذين يبحثون عن قوة التجمع ، ذلك الحزب العملاق الذي سيطر على مقدرات البلاد و شعبها أزيد من خمسين سنة .و لا يقتنعون أن هذه القوة قد وهنت ثم تبعثرت .بين عشرات الأحزاب التي حاولت نيل قسطها في هذه الانتخابات ففشلت و لا أظن أن التجمعيين سيتركون حزب الوطن و المبادرة و آفاق و الدستوري الجديد ووو... و يبحثون لهم عن بديل في قائمات العريضة الشعبية للهاشمي الحامدي ..
و دون إطالة لا يتحملها الظرف . أشير إلى تلك الطوابير التي وقفت على أبواب مراكز المعتمديات و الولاياتالتونسية أسابيع طويلة مباشرة بعد الثورة للحصول على بضعة دنانير و قليل من المواد الغذائية فباستطاعتنا أن نجد فيها جزئيا ، تفسيرا لنجاح قوائم العريضة الشعبية ..
3 في الأخير هي ظاهرة مرضية
و حتى نكون منصفين تجدر الإشارة إلى أن مواصفات الخطاب الشعبوي تكاد تكون مبثوثة في الخطاب الانتخابي لكافة القوائم لأن الجميع كان يخشى من قوة تأثير تلك الشعارات الشعبوية على الناس ..و الفرق الجوهري بينها و بين العريضة الشعبية أننا هنا أمام تركز خطير لأنه سيؤدي إلى إفساد العملية من أساسها و الأمر يتعلق بكتابة دستور البلاد وهو عمل نخبوي بامتياز , و ليس من المعقول أبدا رغم احترامنا للعامل و الفلاح و التاجر الصغير و كل أصحاب المهن الشريفة الذين هم آباؤنا و إخواننا الذين نضعهم فوق رؤوسنا .. أن نهمش النخب المناضلة و المسيسة و جموع الكفاءات التونسية الأخرى و نوكل مثل هذه المهمة الصعبة لغير أهلها ..ولعل ذلك ما يبرر شعور النخب بالصدمة و يجعل من الموقف الواجب اتخاذه من ممثلي العريضة الشعبية في المجلس التأسيسي معضلة أربكت الجميع وجعلت حركة النهضة نفسها و هي الخصم الأكبر لكل إقصاء تشعر بالحرج الشديد وهي تمارس الخطاب الداعي لتشريك الجميع في نحت مستقبل تونس و ترفض التعامل مع نحو 30 نائب في المجلس التأسيس ...
يبقى أنه حتى يقول القضاء كلمته في هذه الظاهرة أحسب أن الموقف الأسلم هو القبول بحكم الصندوق لندعم سلطته في المستقبل و لا نضعف مبدأ الاحتكام إليه ثم نحتدي في التعامل مع ظاهرة قوائم العريضة بالديمقراطيات التي سبقتنا في النمسا و فرنسا و هولندا و غيرها فنقوم بتهميشها و لعل الهاشمي الحامدي قد نسي التفكير في هذا المآل في غمرة حماسه لنفسه و شدة غروره الذي يصور له أنه سيثبت لحركة النهضة أنه خسارة كبيرة لها فيسقط في التبشير بخطاب فاشستي معروف قد ينجح في الانتخابات لكنه لا يرسي الديمقراطيات وفي لحظة تاريخية ثورية تهفو إلى معانقة الكرامة و الحرية و تنبذ حتى ، نسيم الدكتاتورية ... انتهى