حل يوم 23 أكتوبر الموعود وأقبل الناخبون بكثافة على صناديق الاقتراع ليكتشفوا معنى الانتخابات الحرة والنزيهة بعد أن حرموا منها عقودا من الزمن و سمعوا عنها الكثير دون أن يعرفوها ، استعدوا لها كما أوصاهم الساسة واللجنة المستقلة للانتخابات و فروعها المنتشرة في كل الولايات وتوجهوا تباعا إلى مراكز الانتخابات ليجدوا أنفسهم طوال يوم كامل محل عناية من أحزاب سياسية و لجان انتخابات و وسائل إعلام و ملاحظين من داخل تونس و خارجها فتيقنوا بذلك أنهم سادة الموقف وأصاحب القرار، اصطف الناس في صفوف طويلة داخل المدارس و المعاهد وكأنهم يريدون أن يتذكروا القيم النبيلة إلى تعلموها في صباهم ثم لينسوا بعد ذلك كل ما عانوه من أولياء أمورهم من كذب و نفاق و حرمان باسم الحرية والعدالة و التنمية و التفاني في سبيل الوطن .دخل الناخبون تباعا إلى مكاتب الاقتراع ليعيش كل واحد منهم في خلوته حلم الحرية لاختيار من يمثله في المجلس التأسيسي. انقضى ذلك اليوم العظيم بعد أن عبر الشعب عن إرادته وقال كلمته في كل ما اختلف فيه الساسة فجاءت نتائج الانتخابات تتضمن رسائل سياسية إلى كل من يهمه الشأن : الرسالة الأولى : الدفاع عن النفس و عن الوجود فهذا الشعب لا يمنح ثقته إلا لمن يدافع عن هويته وهو متمسك بعروبته وبعقيدته ويلفظ كل من يشكك فيها وهو يدرك أن المجلس الوطني التأسيسي سوف يصوغ دستور البلاد و أن الدستور يتضمن تحديد هوية الدولة لذلك عمد إلى إبعاد كل من قد يمس بهويته باعتبارها إحدى ثوابت المجتمع التي دافع عليها منذ انتخاب المجلس التأسيسي الأول وبقي متمسك بها يحرسها و يهب لنصرتها كل ما شعر بأنها مهددة ولا شك أن الجدل الذي أثارته بعض النخب حول موضوع الهوية سواء داخل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة أو من خلال وسائل الإعلام ثم الاستفزاز الذي أثاره تجسيد الذات اللاهية وما رافقه من مهاترات بلغة عامية ركيكة عند عرض فيلم برسي بوليس على قناة نسمة قبيل موعد انتخاب المجلس التأسيسي دق ناقوس الخطر في قلوب الناخبين بأن هويتهم مهددة فهبوا لنصرتها بمنح أصواتهم إلى من يدافع عنها وحجبها عن المشككين فيها. الرسالة الثانية: مكافأة المناضلين الذين وقفوا ضد الاستبداد و الفساد خلال عهدي بورقيبة و بن علي ومنحهم الثقة قبل غيرهم فهؤلاء هم الذين ضحوا بحرياتهم و بأنفسهم و دافعوا عن الحرية والكرامة و العدالة الاجتماعية وعانوا مقابل ذلك من التعذيب و من القمع و من التجويع و من الإقصاء عن العمل في الساحات العامة و الخاصة وهؤلاء هم شرارة الثورة وهم أحق من غيرهم خاصة أولائك الانتهازيين الذي يحولون ركوب الثورة سواء كانوا أفرادا أو أحزابا بالائتمان على مسيرتها و ما المجلس التأسيسي إلا أول خطواتها. الرسالة الثالثة :القطع مع منظمتي الفساد و الاستبداد و ذلك بقطع الطريق على من كان سببا فيهما زمن الرئيس المخلوع وعلى رأسهم التجمعيين فهؤلاء هم المسؤولون عن الفساد و الاستبداد الذين وصلت إليهما البلاد إبان حكمهم لذلك قرر الناخبون صدهم عن الوصول إلى المجلس التأسيسي كما قرروا معاقبة الأحزاب التي حاولت احتوائهم و فتحت لهم ذراعيها. فشل التجمعيين في العودة إلى مراكز صنع القرار رغم كل محاولاتهم سواء من خلال قوائم "مستقلة" تقف ورائها رموز تجمعية معروفة أو من خلال أحزاب فرخت عن حزب التجمع و ورثت قدراته البشرية و المادية وحاولت إغراق الحملة الانتخابية بالمال السياسي و إغراء الناخبين بنعيم الدنيا يؤكد في اعتقادنا هشاشة حزب التجمع المنحل و زيف رموزه الذين كانوا يدعون أنه يظم الملايين و أنهم يلتقون على مبادئي وطنية سامية فإذا بهم يفشلون حتى في تجميع بضعة ألاف للوصول إلى المجلس التأسيسي بعد أن انفض من حولهم الناس الذين لم يكن يربطهم بالتجمع إلا الخوف من الاضطهاد و التهميش و الإقصاء أو بعض المصالح اليومية الضيقة . كل هذه الرسائل تعبر عن نضج المواطن وفهمه لطبيعة المرحلة وطبيعة القوى التي فوضت نفسها لقيادته وتعبر أيضا عن حرصه على مواصلة مسيرة الثورة حتى تحقق أهدافها وهي رسائل موجه للجميع في الداخل و الخارج. موجهة إلى النخبة الواقفة على الربوة و التي لم تعجبها نتائج الانتخابات بأن لا تسخر من شعبها و لا تتهمه بالجهل أو بالتخلف أو بالنفاق وبأن تتواضع فتخاطب شعبها بلغته و تتبنى همومه ومشاغله وهي موجهة إلى المستقلين الذين فشل أغلبهم في الوصول إلى المجلس التأسيسي بأن لا زعامات بعد اليوم وعلى كل من يريد أن يعمل في السياسة أن يختار موقعه داخل حزبه فالنجاح في السياسة يمر عبر التنافس النزيه بين الأحزاب وهي موجهة إلى الأحزاب الخاسرة بأن تعرف حجمها الحقيقي وبأن تتدارك أخطائها حتى تلتحق بالركب و هي موجهة إلى الأحزاب الفائزة بأن تسير على الطريق الثورة وبأن تلتزم أهدافها و مبادئها وإلا فإن الملايين التي منحتها ثقتها في هذه الانتخابات قادرة على سحبها منها في أول انتخابات قادمة فلا ثقة مطلقة بعد اليوم في أي كان تلك هي إرادة الشعب بعد أن استجاب له القدر وتلك إحدى رسائله الخالدة. د عبد الحكيم كرشيد