إن المتأمل في المشهد السياسي و الإعلامي يقف على ارتباك و تخبط في جميع المجالات سواء تعلق الأمر بالتصريحات السياسية أو الأداء الإعلامي و هذا المشهد يبدو طبيعيا في بلد يبني ذاته و يؤسس لتجربة ديمقراطية. لكن الملفت للنظر أن بعض الأحزاب و الشخصيات المستقلة التي لم تنجح في الانتخابات الأخيرة تحاول أن تتجاوز هزيمتها بخلق مشهد جديد يظهرها في موقع المنتصر و المراقب للمجلس التأسيسي و المؤتمن على الجمهورية الثانية.و سنحاول في هذا المقال أن نفكك آليات اشتغال هذا الاستراتجيا . إن المسلمة الأساسية التي تقوم عليها هذه الإستراتجية هو تقديم أصحابها لأنفسهم باعتبارهم المؤتمن الوحيد و الشرعي على التراث الحداثي و العقلاني، إضافة إلى التأكيد من خلال التسويق الإعلامي على أن التيار الإسلامي و خاصة حركة النهضة تهدد هذه المكاسب و تمثل خطرا يجب مواجهته.لذلك اختار ه هذا التيار موضعة نفسه في ما يسمى بكتلة" الحداثيين"التي تضم خليطا من اليسار بجميع فصائله و الليبراليين و كل من يثبت معارضته لمشروع حركة النهضة و يتبنى فكرة ازدواجية خطابها.وغالبا ما يقع تقديم الحركة في صورة الإنسان الهمجي البربري الذي يهدد مكاسب الحداثة و يقتضي استفاقة من النخب الحداثية من جهة كونها حصن يمنع تسرب الجهل و الظلامية إلى الشعب التونسي.بهذا المنطق المغلوط يظهر المنتصر في الانتخابات مثل السارق الذي تسلل إلى المجتمع في غفلة من الحراس ,و يتحول المهزوم إلى بطل لم يفهمه الشعب، لكنه رغم ذلك يصر على أن ينذر نفسه من جديد لحماية الحداثة والعقلانية أملا في استفاقة هذا الشعب و عودته إلى رشده. و تعتبر قضية المرأة من أهم الحيل التي تلتجئ إليها النخب "الحداثية" للظهور من جديد في ثوب المنتصر المدافع عن حقوقها ضد حركة تخفي أجندتها الحقيقة و تمارس الدعاية.فالحديث عن حقوق المرأة و المحافظة على مجلة الأحوال الشخصية هو ضرب من التقية و تسويق انتخابي تسعى من خلاله الحركة إلى طمأنة المجتمع المدني على مكاسب المرأة, لكنها ستنقلب على وعودها عند تمكنها من السلطة وتشرع لتعدد الزوجات و تجبر المرأة على البقاء في البيت.إن هذا التحذير من ازدواجية خطاب حركة النهضة تقدمه النخب في صورة قراءة استراتيجية معمقة تبعدها عن وظيفة الكهنة الذين يقرؤون ما في النوايا و يطلعون على ما تخفي النفوس. -التركيز على قضايا التشغيل واستحقاقات الثورة و حق الثوار في التعويض المادي و النفسي .وتعمل هذا النخب الحداثية على إبراز الطابع الفج و المخيف لهذه المسائل موظفة الآلة الإعلامية التي تملكها: التركيز على بطأ الحكومة, نقل صور مأساوية عل وضعيات اجتماعية مقابل تقديم مشاورات الكتلة الفائزة في صورة الغازي الذي لا يفكر إلا في اقتسام الغنائم و المتعطش للسلطة المتكالب على الحكم .بل إن البعض الذي يتهم حركة النهضة برفضها للآخر يسعى إلى إبراز الطابع الهش و العرضي لتحالفها مع التكتل و المؤتمر و اعتبر ترشيح السيد حمادي الجبالي لرئاسة الحكومة استعجالا و عدم نضج سياسي. إن هذه الاستراتجية التي رسمتها النخب"الحداثية " كفلية بقلب الموازين الانتخابية و إعادة رسم للمشهد السياسي تبدو فيه حركة النهضة كمتهم يمثل خطرا على المكاسب الحداثية و تظهر هذه النخب في صورة حامي الحداثة و الديمقراطية" و المراقب للنهضة بتفويض من المجتمع الذي أخطا في خياراته.لكن قراءة في التاريخ و الواقع الفعلي يكتشف الضعف النظري و العملي لهذه الاستراتجيا : أولا هذه النخب الحداثية لا تملك تقاليد ديمقراطية تؤهلها من وضع نفسها كابن شرعي وحيد للتراث الحداثي.وذلك على الأقل لسببين:مرجعياتها الايديولوجية لا تؤمن بالديمقراطية و لم تمارسها قط بل يشهد التاريخ بفظاعة ممارساتها و بشاعة ديكتاتوريتها(الغولاغ-التصفية العرقية )،كما أن الأحزاب التي أسستها لم تمارس الديمقراطية داخل مؤسساتها وإنما خضعت لمنطق الزعامات و الحسابات الضيقة.و الدليل على ذلك التفريخ الايديولوجي لهذه الأحزاب.أما الأحزاب الليبرالية فهي لم تشذ عن هذه القاعدة ولم تفلح في أن تكون وفية لمرجعيتها ، بعضها ارتمي في أحضان النظام السابق و رضي ببعض الفتات و الامتيازات السياسية و الاقتصادية.إن المتأمل في التاريخ المعاصر للأمة العربية يكتشف فشل الخيارات القومية و الليبرالية و اليسارية التي لم تفلح في بناء ديمقراطية حقيقية و مواطنة فعلية ( التجارب الاسلامية هي الأخرى قد فشلت بسبب فساد مالي و استفراد بالسلطة ونتيجة للرفض الدولي لها بتحالف مع القوى اليسارية والليبيرالية).ولعل ما حصل في الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي و الانتقال الديمقراطي كشف عن عقلية تسلطية لكتلة الحداثيين: هيمنة حزب التجديد و بعض اليساريين والليبراليين و سعيهم إلى الاستفراد بالقرارات و تعيين اللجان و رسم سياسة الهيئة وفق منطق الإقصاء و التهميش.والغريب أننا لم نسمع من القوى الحداثية استنكارا لهذه العقلية بل إن الأمر وصل إلى حد تعيين الهيئة العليا المستقلة للانتخابات(هذا لايعني التشكيك في نزاهتها و عملها) التي ضمت شخصيات من اليسار و القوميين و الليبراليين باستثناء الإسلاميين.لكن على الرغم من ذلك قبلت حركة النهضة و عولت على نزاهة بعض الأطراف. أما في ما يتعلق بمسالة المرأة و اثارتها كفزاعة ,فلقد تبين بالكاشف أنها "حصان طروادة" يمتطيها العاجزون عن الحركة و الفعل.فالمرأة التونسية شهدت لحظتين فارقتين في مسيرة تحررها كان فيها للتيار الإسلامي السبق و الفرادة:مجلة الأحوال الشخصية التي صاغها شيوخ الزيتونة و انتخابها في المجلس الوطني التأسيسي مع حركة النهضة بمقاعد تفوق ما تحصل عليه الحداثيون بمختلف توجهاتهم. هده المرة الأولى التي تتصدر فيها المرأة مناصب سياسية رفيعة لم تعهدها مع الحداثيين حيث التمثيل الضعيف للمرأة(حضور المرأة في النقابة هزيل جدا و في الكليات "عميد" ). أخيرا إن إثارة المشاكل الاجتماعية و تعمد خلق الفوضى و توظيف هموم الشعب لغايات حزبية ضيقة تشفيا في حركة النهضة يكرس تقاليدا سيئة في المعارضة تنحدر بها من مستوى النقد و المحاسبة إلى تعطيل مصالح البلاد و العباد و الانقلاب على الشرعية الشعبية.و ما يثير الانتباه انه كلما تقدمت حركة النهضة في اتجاه طمأنة المجتمع ،سارعت النخب الحداثية إلى افتعال أزمات تسوق لصورة سيئة للإسلاميين و تحذر الشعب التونسي منهم .ونحن نعتقد أن مسالة النقاب تندرج في سياق هذه الاستراتجيا و إن كنا نرفض منطق العنف و نؤكد على استقلالية المؤسسات الجامعية . إننا نمر اليوم بمرحلة هامة في تاريخنا المعاصر و نسعى لضخ الدماء في شرايين المجتمع المعطلة منذ سنين و هذا يقتضي تضافر كل القوى السياسية و مكونات المجتمع المدني و جميع شرائح المجتمع.و إذا كانت كتلة الأغلبية مسؤولة عن قيادة البلاد و بناء مؤسسات مستقلة و فاعلة فانه على المعارضة أن تتحمل مسؤولياتها و تبتعد عن منطق تصفية الحسابات و الدفع نحو المجهول و الفوضى. الانتصارات لا تصنعها الحسابات الايديولوجية الضيقة و إنما الإخلاص للوطن و المشاركة في بناء مستقبل أفضل. الأستاذ:توفيق الساسي