محمد البشير بوعلي المتابع لوسائل الإعلام التونسية المكتوبة وخاصة منها المسموعة والمرئية التي تقتحم علينا بيوتنا وتفرض نفسها فرضا على كل تونسي حريص على متابعة أخبار بلادنا في هذه المرحلة الحساسة من تاريخنا، يلاحظ أن النمطية واستفراد اللون الواحد مازال مهْيمنا في وسائل إعلامنا في مرحلة ما بعد الثورة، تماما كما كان مهيمنا زمن الاستبداد الغاشم، كلُّ ما تغير هو أن الذين كانوا يهيمنون عليه ويوجّهونه في السابق هم رجال الصحافة والإعلام من المدّاحين المتملقين للاستبداد، والذين يهيمنون عليه الآن -وإن كانوا في أشخاصهم هم أنفسهم لم يتغيّروا- فقد صاروا عرّابين في ركاب الأحزاب العلمانية المغالية، فتحوا صفحات جرائدهم الخاصة وأبواب إذاعاتنا الوطنية ليصول فيها رفاقهم ممن يحملون نفس توجهاتهم من صحفيين وكتاب ومحللين، هاتكين مواثيق الصحافة ومبادئ الإعلام النزيه والشروط الموضوعية للأداء الإعلامي هتكًا بواحًا، في انحياز واضح قاهر معربد يستفزنا لا نستطيع تجاهله، حتى صرنا نتمنى لو لم يكن لدينا صحافة ولا إعلام من هذه الطينة الرديئة، فهذا أقل ما يُقال فيه أنه إعلام أعرج فاقد للحياد والموضوعية. ومن آخر ما شهدته من ذلك وعلِق في ذاكرتي لقرْب عهده، ما تم عرضه قبل بضعة أيام من لقاء صحفي دُعي له -كما قالوا- الكاتب والمحلل السياسي صافي سعيد جمعه بصحفية لم يكن لها حضور غير إلقاء بعض الأسئلة الشحيحة والسطحية ثم التزام الصمت لتترك السيد المحلل يقول ما يريد دون الاعتراض عليه بتعقيب ولا تنبيهه إلى شيء من التناقضات الكثيرة التي كان يقع فيها، ولا سؤاله عن أدلة أقواله في ادعاءات مجردة لا برهان له على صحتها... من ذلك مثلا ما ذكره من أن حركة النهضة مهيمنة على حليفيها المؤتمر والتكتل وهما تابعان لها في كل ما تريد ويتنازلان في إرضائها بلا اعتراض... لينتكس بعد عبارته هذه مباشرة مؤكدا أن الخلافات في المجلس التأسيسي بين النهضة من ناحية وبين المؤتمر والتكتل منا ناحية أخرى على أشدها، وأن التحالف الثلاثي لن يتوصل إلى حل أو صيغة مشتركة ولو استغرق ثلاثة شهور، وأنه سيحصل له ما حصل لائتلاف حكومة العراق ولبنان... فكيف يمكن التوفيق بين أن الثنائي مستسلم للنهضة لا يعارضها، وبين كون الخلافات بينهم على أشدها ولن ينجحوا في تجاوزها! أليس هذا تناقضا عجيبا! لم يتنبه له محللنا السياسي المتحامل ولا صحفيتنا السلبية التي كان حضورها كغيابها. كما ذكر في نفس اللقاء أنه حضر مؤتمرًا في ليبيا -قبل الثورة على القذافي- دُعيت له كل القيادات الإسلامية بداية من الترابي والقرضاوي إلى الغنوشي، بايعوا فيه القذافي جميعهم.. ولا ندري عما إذا كان محللنا يعرف مفهوم المبايعة في الفكر السياسي الإسلامي أم لا، فقد يكون قصد بذلك أنهم حيّوه بتحية الإسلام فاعتبر ذلك مبايعة منهم له. ولو كانت هذه المبايعة السياسية قد حصلت فعلا لحَرص القذافي على نشرها وإعلام العالم بها ليكون في مقام خليفة المسلمين كما كان أمينا للقومية العربية. وقد اكتفت الصحفية بالاستماع إليه دون أن يصدر منها أي تعليق، وقد كان جديرا بها أن تسأله، هل كان هو من المبايعين أم من الرافضين لتلك المبايعة؟ فلو كان من المبايعين كغيره من الحاضرين باعتباره قوميًّا حظي بدعوة القذافي أمين القومية، فليس له أن ينتقد القيادات الإسلامية على مبايعتهم. وإذا كان قد رفض المبايعة، فكيف خرج سالما من لقاء القذافي الجبار وعاش إلى أن يتحفنا بلقائه الصحفي هذا؟ ومِن أغرب ما صرّح به محلّلنا السياسي -لمّا سألته الصحفية عن سبب صعود حركات الإسلام السياسي- قوله: إن أمريكا هي التي دعمت الإسلاميين منذ بداية العقد الماضي (بداية الألفية الثالثة)، بحيث جعل الفضل في صعود الإسلاميين يرجع إلى دعم أمريكا لهم لإضعاف اليسار والقوميين. وكعادتها لم تعلّق جليسته الصحفية بشيء، مع أن تصريحه فيه مغالطة متهافتة لا تصدقها عقول أنصاف المثقفين، وإلا فإن قوله هذا معناه أن أمريكا قررت بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 الشهيرة دعم الإسلاميين، وكأن صاحبنا لم يسمع بالحروب والعمليات العسكرية والمخابراتية التي شنتها أمريكا ضد الإسلاميين طوال العقد الماضي، ولم يعلم بدعمها للاستبداد المستهدف للإسلاميين في العالم العربي كله، وأن دعمها للحكام الفاسدين وغضها الطرف عن جرائمهم كان يزيد كلما زادت شراسة أولئك في استهداف الإسلاميين!. فكيف يُرجع محلل سياسي صعود التيارات الإسلامية في مقابل تراجع القوى اليسارية والقومية إلى عامل التدخل الأمريكي لفائدة الإسلاميين، والحال أن ملاحقة أمريكا لهم وتحريضها عليهم لم تتوقف حتى الآن! بل إنه بعد الثورات العربية زادت أمريكا دعمها للتيارات العلمانية بالمال والتوجيه، حتى أنهم ضخوا لهم في تونس مبلغ 20 مليون دولار في أرصدتهم باسم دعم الديمقراطية على أمل رفع رصيدهم السياسي في الانتخابات. أما عن الزيارات التي قام بها بعض القيادات الإسلامية لأمريكا واتخذها هؤلاء دليلا على علاقة التبعية المزعومة تلك، فلم تكن غير دعوات توجه بها الأمريكيون أنفُسهم وحرصوا عليها لغاية جس النبض ومحاولة فهم عقيلة هؤلاء لمعرفة إمكانية وكيفية التعامل معهم عندما أن أصبحت إمكانية إقصائهم عن المشاركة السياسية متعذرة بعد نجاح الثورات التي فتحت لهم باب المشاركة رغم أنف الأمريكيين... وهذا مجرد مثال واحد، وإلا فإن اللقاءات الصحفية والمنابر الإعلامية وحتى التقارير الإخبارية التي تجود بها علينا وسائل إعلامنا كل يوم.. تنضح بالتحيز ضد الإسلاميين، فلا تُدعى إليها غالبا إلا الوجوه المعروفة بغلوها العلماني وعدائها لهويّة شعبنا، حيث نرى قواعد الإعلام تُداس والنزاهة تُخترق بلا حياء، ولا نرى توازنا في تعدد الوجوه وعدلا في توزيع المشاركات في المنابر الإعلامية إلا نادرا. والعجيب أن هذا التحيز والتحامل الذي كان على أشده خلال الشهور الستة الأولى لِما بعد الثورة إلى حلول الصيف، رأيناه قد خفت قليلا بعد ذلك بفعل ضغط المستمعين والمشاهدين الذين عبّروا مرارا عن سخطهم لهذا التحامل واتهموا وسائل إعلامنا بالتحيز لأطراف سياسية على حساب أخرى. ثم جاءت الانتخابات التي كانت نتائجها مخيبة لآمال القائمين على القطاع الإعلامي والمنشطين له، فعادوا إلى التحامل والتحيز مجددا، حتى أننا صرنا نعيش مفارقة لم يعرفها تاريخ بلادنا، وهي أن من هم على أبواب الحكم لقوة رصيدهم الانتخابي صاروا مستضعفين من قبل وسائل إعلامنا وإعلاميينا الذين استفادوا مما أتاحته لهم الثورة من مجالات واسعة للحرية، متناسين أن وجودهم في تلك المواقع الإعلامية المتقدمة لا يعود إلى نضالاتهم ولا كفاءاتهم، بل يعود إلى كونهم كانوا زمن الاستبداد إما مباركين مدّاحين، فتصدروا المشهد الإعلامي لقاء مدحهم، وإما صامتين مستكينين راضين بما عليه الحال، وبالتالي فلم يفقدوا مواقعهم قبل الثورة وحافظوا عليها بعدها. بخلاف غيرهم من الصحفيين والإعلاميين المناضلين فقد طُردوا من أعمالهم وتشتتوا بين السجون وضياع البطالة، إلى أن أصبح المشهد الإعلامي خاليا تماما منهم، وهو إلى الآن مازال خِلوًا منهم، وتلك ضريبة نضالهم التي حكمت عليهم أن يظلوا في الظلام مجهولين، بينما ورث غيرُهم المنابر الإعلامية فظلوا فيها متربعين على عرشها، ومكنتهم الثورة من مجال واسع للحرية فكثفوا نشاطهم للتحامل على من ناضلوا من أجل تلك الحرية التي ينعمون بها هم الآن، وتنكروا لهم كما تنكّروا قبل ذلك لمبادئ الأداء الإعلامي وقواعد المهنة الصحفية التي تقوم على النزاهة والحياد. لقد كان مبدأ الموضوعية والتزام الحياد يقتضي أن يحضر في كل منبر إعلامي عام -إذاعي أو تلفزي- أطراف ذات مواقف مختلفة تتدارس القضايا الكبرى، ليتجادل الحاضران أو الحاضرون فيها بعدل، ويستمع المستمعون والمشاهدون لآراء مختلف الأطراف. وإذا كان ذلك متعذرا بحكم تعذر حضور الطرف المخالف أو بحكم طبيعة البرنامج الإعلامي.. فيجب أن يقوم منشط البرنامج بدور إثارة الطرف الحاضر بالأسئلة الجادة، وتعقبه فيما يقول خصوصا إذا وقع في تناقض مع نفسه، أو قال كلاما مجافيا للمنطق أو مفتقرا للبرهان... ليملأ الفراغ الواقع في برنامجه ويعدل في عرض القضية المطروحة، بحيث يلبّي رغبة المستمعين والمشاهدين العاجزين عن المشاركة برأيهم، فيقوم مقامهم في طرح الأسئلة التي يتوقعهم سيطرحونها على ذلك السياسي أو المحلل السياسي لو كان بإمكانهم المشاركة... لكي لا يشعر أولئك أنهم في موقع سلبي وأن تلك الإذاعة أو التلفزة -وخصوصا إذا كانت وطنية تُقتطع من قوتهم- تفرض عليهم سماع موقف نمطي واحد يتبناه المشرفون على تلك المؤسسة الإعلامية والإعلاميون المنشطون لها. وليكن في تجارب من سبقونا أشواطا في تجربة الإعلام الديمقراطي درسٌ لنا، فالمُشاهِد للقنوات التلفزية والفضائيات اللبنانية مثلا، يلاحظ بوضوح أن منشطي البرامج يقومون بذلك الدور بإتقان، وخصوصا عندما يُدعى لمنابرهم شخص يتبنى موقف الطرف السياسي المالك لتلك المؤسسة الإعلامية، حيث يتحوّل الإعلامي المنشط إلى معارض لتوجُّهِ مؤسسته، فتراه يحاصر ذلك السياسي أو المحلل السياسي بالأسئلة، وينبهه إلى تناقضاته وأخطائه التي وقع فيها، بل ويعمل على استدراجه بالأسئلة الاختبارية الحرجة، حتى أنه ينتاب المشاهد شعور بأن ذلك الإعلامي معارض حقيقي لضيفه، وليس الأمر كذلك، وإنما احترام قواعد المهنة و نزاهة الأداء الإعلامي وكذلك احترام عقل المشاهد ومشاعره تُلزم ذلك الصحفي أو الإعلامي بالقيام بذلك الدور الذي تفتقر له صحافتنا وإعلامنا في تونس إلى حد بعيد. فمتى سنرتقي بأدائنا الإعلامي إلى ذلك المستوى المأمول، لنتخلص من هذا الاستبداد الإعلامي الأعرج كما تخلصنا من الاستبداد السياسي المقيت؟