دواء كثيرون يستخدمونه لتحسين النوم.. فهل يرتبط تناوله لفترات طويلة بزيادة خطر فشل القلب؟    أفضل 10 طرق طبيعية لتجاوز خمول فصل الخريف    زيلينسكي: لا نخاف أميركا.. وهذا ما جرى خلال لقائي مع ترامب    الاحتلال يواصل شن غارات على خان يونس ورفح وغزة    هبوط اضطراري لتسع طائرات بهذا المطار..#خبر_عاجل    الشرع: سوريا حققت إنجازات كبيرة خلال 11 شهرا    بطولة فرنسا: باريس سان جرمان يتغلب على ليون وينفرد بالصدارة    الأهلي بطل للسوبر المصري للمرة ال16 في تاريخه    التوقعات الجوية لهذا اليوم..#خبر_عاجل    أمطار صبحية متفرقة لكن.. الطقس في استقرار الأيام الجاية    عاجل/ فاجعة تهز هذه المعتمدية..    محمد صبحي يتعرض لوعكة صحية مفاجئة ويُنقل للمستشفى    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    مجدولين الورغي: عريضة سحب الثقة لا تستهدف بودربالة بل تصحيح أداء مكتب المجلس    عاجل/ غلق ثلاث مطاعم بهذه الولاية بسبب هذه الفضيحة..    رواج لافت للمسلسلات المنتجة بالذكاء الاصطناعي في الصين    اليوم جلسة عامّة بالبرلمان لمناقشة ميزانية وزارتي الداخلية و العدل    مجلس الشيوخ الأمريكي يصوت لصالح إنهاء الإغلاق الحكومي    السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    ألعاب التضامن الإسلامي بالسعودية :تونس تُتوج بثلاث ميداليات برونزية في الجودو    النجم الرياضي الساحلي يستنكر الهفوات التحكيمية في مواجهة النادي الرياضي البنزرتي    صفاقس : نحو منع مرور الشاحنات الثقيلة بالمنطقة البلدية    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    بساحة برشلونة بالعاصمة...يوم مفتوح للتقصّي عن مرض السكري    أندا تمويل توفر قروضا فلاحية بقيمة 40 مليون دينار لتمويل مشاريع فلاحية    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    الليلة: أمطار متفرقة ورعود بأقصى الشمال الغربي والسواحل الشمالية    كاس العالم لاقل من 17 سنة:المنتخب المغربي يحقق أكبر انتصار في تاريخ المسابقة    الانتدابات فى قطاع الصحة لن تمكن من تجاوز اشكالية نقص مهنيي الصحة بتونس ويجب توفر استراتيجية واضحة للقطاع (امين عام التنسيقية الوطنية لاطارات واعوان الصحة)    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    نهاية دربي العاصمة بالتعادل السلبي    احباط تهريب مبلغ من العملة الاجنبية يعادل 3 ملايين دينار..#خبر_عاجل    الشرع يصل إلى الولايات المتحدة الأمريكية في زيارة رسمية    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    جندوبة: الحماية المدنية تصدر بلاغا تحذيريا بسبب التقلّبات المناخية    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    تونس ستطلق مشروع''الحزام الأخضر..شنيا هو؟''    حريق بحافلة تقل مشجعي النادي الإفريقي قبل الدربي    المنتخب التونسي تحت 23 عاما يلاقي وديا السعودية وقطر والامارات من 12 الى 18 نوفمبر الجاري    الديربي التونسي اليوم: البث المباشر على هذه القنوات    أعلاها 60 مم: كميات الأمطار المسجلة خلال ال24 ساعة الماضية    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    عاجل: اليابان تصدر تحذير تسونامي...شنيا الحكاية؟    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    هام: مرض خطير يصيب القطط...ما يجب معرفته للحفاظ على صحة صغار القطط    الجزائر.. الجيش يحذر من "مخططات خبيثة" تستهدف أمن واستقرار البلاد    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    تقرير البنك المركزي: تطور القروض البنكية بنسق اقل من نمو النشاط الاقتصادي    منوبة: الكشف عن مسلخ عشوائي بالمرناقية وحجز أكثر من 650 كلغ من الدجاج المذبوح    هذه نسبة التضخم المتوقع بلوغها لكامل سنة 2026..    بسمة الهمامي: "عاملات النظافة ينظفن منازل بعض النواب... وعيب اللي قاعد يصير"    تونس: ارتفاع ميزانية وزارة الثقافة...علاش؟    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ما العيد وما الجديد ؟
نشر في الحوار نت يوم 02 - 12 - 2009


راشد الغنوشي
الأعياد محطات ترويح وتذكّر، وكسر للمألوف المتكرر، وتجديد لأواصر الاجتماع العابرة لمختلف التمايزات والفوارق الطبقية والجنسية والعمرية والسياسية، وذلك من طريق الإحياء لوقائع أساسية وقد تكون تأسيسية مشتركة وفارقة في حياة الجماعة الوطنية المحتفية، سواء أكانت دينية أم سياسية، من مثل انتصار على عدو في معركة فاصلة أو هدم لصرح من صروح الاستبداد، أو ولادة شخصية مؤسسة لدين أو لدولة أو لمذهب... فما هي المعاني التأسيسية للأعياد الإسلامية ؟ وكيف يرى حال الأمة في مرآة هذا العيد؟
أولا:
1- الطبيعة الدينية للإنسان: مما يميز الإنسان أنه كائن متدين، وبتعبير الفلاسفة أنه كائن ميتافيزيقي، بمعنى أنه ولئن اشترك مع بقية الأنواع في مطالب الغريزة، إلا أنها لا تستغرقه، ففي تعامله مع محيطه لا يقتصر على الاهتمام بما يقدّر أنه ينفعه وما يضره وحسب، بل قد يجاوز ذلك إلى طرح السؤال الميتافيزيقي عن الأسباب: من فعل هذا؟ والغايات: ولم فعل؟ مستبطنا وجود عقلانية وانتظام وغائية فيما يجري من حوله، متشوفا إلى المسك بها، مستبصرا ملامح من التناسق والجمال فيما يرى ويسمع، حتى ليبلغ حد الدهشة والانبهار والانجذاب والظمأ والبحث الناصب عن سبيل للتواصل مع الماوراء، مع الغيب، مع قوة أو قوى يركن إليها ويروي بها ظمأه.
ولذلك لم تكن جهود النبوات منصبّة على الإخبار بما هو غريب عن الناس، بقدر ما كانت تهذيبا لما هو عميق ومستقر في نفوسهم من وجود إله، وجود عالم غيبي، وإن تكن صورته مشوشة. لم يسجل الباحثون في تاريخ الحضارات خلوّ مدينة من مدائنها من ديانة أو ديانات ومعابد وكهنة، مما له دلالة واضحة على أصالة وعمق الطبيعة الدينية للإنسان، وحتى ما روّج له بعض الفرنسيس خلال سكرة الغضب التي مروا بها من تاريخ ثورتهم، لا تزال آثارها عالقة بهم، ثورة على ما عرفوه من صور شنيعة للدين وممثليه، فإنهم لم يذهبوا بعيدا، إذ لم يزيدوا عن تعويض ثالوث الكنيسة بثالوث عقلاني (الأخوة والحرية والمساواة) وعبادة رموز الكنيسة بعبادة العقل، فلم تكن علمانيتهم في المحصلة نفيا للدين من أساسه كما توهموا وإنما مجرد استبدال دين ذي أصول سماوية بدين وضعي له طقوسه ورموزه، حتى السوفيات الذين اتخذوا الإلحاد دينا حنّطوا جثمان لينين واتخذوه مزارا وكذا فعل الأتراك مع ضريح أتاتورك، وهو ما يصح معه قول بعض الفلاسفة باستحالة الإلحاد المطلق.
ومع أن واضع ديانة العقل "أو غست كونت" أكد أن الدين لم يكن سوى مرحلة من طفولة البشرية أملاها جهل الإنسان بأسباب الظواهر الطبيعية، فافترض آلهة لتفسير ما جهل ولهدهدة نفسه المرتعبة، إلا أنه مع استيقاظ عقله أخذ يبحث عن الأسباب العقلية الفلسفية، أفضت به إلى مستوى أعلى من العلم الوضعي التجريبي بما لم يبق معه حاجة لا للدين ولا للفلسفة الميتافيزيقية، مع أن التجربة تشهد أنه رغم التقدم الهائل للعلم الوضعي فإنه لا نشاط التفلسف انقطع ولا النشاط الديني اضمحل أو تراجع من حياة الإنسان المعاصر بل هو يشهد ازدهارا في أرقى مستوى علمي معاصر، في الولايات المتحدة التي تعيش فورة دينية دفعت إلى سدة الحكم بشخصية أدارت شؤون العالم بالرؤى والإلهامات.
وحتى في أوروبا لا تزال الرموز الدينية مثل البابا والأعياد، ومنها عيد رأس السنة أعظم أعيادهم ، وصعود الأحزاب اليمينية وأقصى اليمين القريبة من الكنائس، مقابل تراجع أحزاب اليسار والأحزاب الشيوعية، ظاهرة، حتى وإن ظلت ضروب هذا التدين مفرغة من الروح الدينية العميقة: خشية الله واحترام مخلوقاته وفي طليعتها الإنسان الذي كرمه الله "ولقد كرمنا بني آدم" 69/16، تديّن مسخّر في خدمة رأسمال وإرواء ظمأه الأبدي للربح والكنز، الإله الأعظم لحضارة العصر التي لا تني تورد البشرية والطبيعة موارد الهلاك.
2- في أساس كل حضارة فكرة دينية هي بحسب مالك بن نبي الشرارة القادحة التي تفعّل عناصر معادلة الحضارة: الإنسان والتراب والزمن، وذلك بما تقدمه من دافع يرتفع باهتمامات الإنسان من مستوى الانحباس في دائرة الإشباع الغريزي إلى أهداف واهتمامات أعلى تعبّئ كل طاقاته لتحقيقها ولو بالتضحية بكل إشباع غريزي وحتى بالتضحية بحياته ذاتها، ولذلك كان مهد الحضارات منطقة النبوات، إلا أن الحضارة الإسلامية تميزت بأن الدين لم يكن مجرد عنصر من عناصر تأسيسها بل كان كل شيء فيها.
هذه أمة صنعها الإسلام ولم تك شيئا ، فارتبطت به مصيريا، قوة وضعفا، بحسب نوع وعيها وتمسكها به واجتماعها عليه، فكانت لحظة نزول الوحي هي لحظة تأسيسها، وكان المرجع الوحيد لتصوراتها ولقيمها ولتشريعاتها، حتى الأعمال الشعرية التي سبقته جمعت لخدمته، فانبثت في كتب التفسير للشهادة على معجزته البيانية، كما نشأت من حوله ولخدمته علوم التشريع والأصول والكلام والتربية والفلك والحساب.
3- أعيادنا دينية اجتماعية لم يكن عجبا إذن أن تكون المحطات الكبرى للترفيه الملتزم، الجامعة للأمة: الأعياد، وثيقة الارتباط بالدين بل منبثقة عنه انبثاقا مباشرا، أعني عيدي الفطر والأضحى، اللذين ظلا رغم ما استحدثته أوضاع التجزئة القطرية من "أعياد وطنية" خاصة بكل رقعة، بعيدة جدا عن مستوى منافسة هذين العيدين وما إليهما من أعياد دينية كعاشوراء، وذلك رغم ما تتلقاه تلك "الأعياد الوطنية" من ضخ اصطناعي، ولكنها ظلت قشرية برّانية، لم تتغلغل في وجدان الناس، ولولا ذلك الضخ ما كان أحد ليشعر بها أو يسمع لها ركزا، حتى أن بعضها يحمل قدرا من التوثّن، بسبب ارتباطه بزعيم، تخليدا لذكرى انتصاب هذا على عرش، أو انقلاب آخر عليه، وقد يكون الأمر من قبيل "كلما دخلت أمة لعنت أختها" (37/7)، فما علاقة مثل ذلك بالناس
4- العيد والتوحيدان: لقد ارتبط عيدا المسلمين وثيق الارتباط بأم العقائد الإسلامية: توحيد الله جل جلاله وإفراده بالعبادة، بما هي تمام الحب ومطلق الطاعة له سبحانه، من طريق الوحي المنزل، كما بينه من أنزل على قلبه، خاتم رسله عليه السلام.
أما الوجه الآخر لعقيدة التوحيد فهي الأخوة الإسلامية الجامعة للموحدين بما يجعل رباط العقيدة يعلو كل رباط، ويجعل المؤمنين أمة من دون الناس مهما اختلفت الألوان واللغى. وفي جملة واحدة جمع القرآن الكريم بين التوحيدين: توحيد الله ووحدة جماعة المؤمنين "واعتصموا بحبل الله جميعا" (102/3)، فكانت كل عبادات الإسلام خادمة لهذين الأصلين والمقصدين: توحيد الله ووحدة الأمة.
وكما أن الشرك الجريمة الأعظم "إن الله لا يغفر أن يشرك به "(47/4) فإن التفرق في الدين قادح في الإيمان"إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء" (158/6) وتوعّد الله بالخلود في الجحيم قاتل المسلم "ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما" (93/4)، ومقابل ذلك وعد بأعظم المكارم المسلم، وتنفيس كرباته ونصرته وستر عوراته والإحسان إليه، ولذلك جاءت عبادات الإسلام وشرائعه خادمة لهذين الأصلين والمقصدين، فالصلاة عماد الدين ولا خير في دين لا صلاة فيه، وهي توجه خالص لله عز وجل طاعة له وشكرا لنعمائه. ورغم أن المعنى الروحي: التوجه إلى الله سبحانه، هو جوهرها، باعتبارها صلة بين العبد وربه، إلا أن أداءها في جماعة يفضل أداءها فرديا بخمس أو بسبع وعشرين مرة، بما يبرز البعد الاجتماعي التوحيدي فيها، بينما الزكاة مع أنها عبادة، البعد الاجتماعي فيها للتوحيد هو الأظهر إلا أن المقصد الروحي فيها بتجريد القصد فيها لله سبحانه وطاعته، شرط لقبولها.
أما الصوم مع أن البعد التوحيدي الروحي هو الأبرز فيه حتى ورد في الحديث القدسي"الصوم لي وأنا أجزي به" إلا أن البعد الاجتماعي للتوحيد فيه بارز، بما يحوّل مجتمع الصائمين وكأنه كتيبة تتحرك حركة جماعية منظمة، فتتعزز مشاعر التضامن، وذلك رغم تقصير العقل المسلم المعاصر في الارتفاع بمستوى التوحد إلى أعلى الدرجات، فيكون للمسلمين عيد واحد ورزنامة إدارية واحدة، وكيف لا يحصل ذلك في عصر ثورة علوم الفلك وبلوغها درجات عالية من الدقة، معيب؟.
وفي فريضة الحج تبدو عقيدة التوحيد الشعار الأعظم والمقصد الأجلى: التوحيد بمعنييه العقدي الروحي "لبيك اللهم لبيك" وبالمعنى الاجتماعي، تذكيرا وإحياء للشطر الثاني من عقيدة التوحيد، ووحدة الأمة، وذلك من خلال الاستذكار والعودة بوفود الحجاج إلى بيت الله الحرام ومن ورائهم الأمة كلها، في لحظات وأطوار تأسيسها، فالطواف حول البيت العتيق بما فيه حجر إسماعيل والصلاة في مقام إبراهيم والتضلّع من ماء زمزم والطواف بين الصفا والمروة والوقوف بصعيد عرفة والإفاضة إلى مزدلفة ومنها إلى منى ورمي الجمرات، في حملات متكررة على رمز الشيطان، كلها مشحونة بالرموز والمعاني المستقاة من لحظات التأسيس للأمة، تأسيسا يقوم على أصلي: توحيد الله سبحانه وتوحيد الأمة حول عبادته ولك أن تقول حول توحيد الألوهية والربوبية: بمعنى توحيد الله سبحانه خالقا وآمرا.
والجدير بالملاحظة بصدد الحج أنه من وجه آية أخرى على صدق نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ودلالة على أن استخلاص دعوته للبيت الحرام من سلطان الشرك عودا به وبسائر مناسك الحج إلى الأصل الإبراهيمي، أصل التوحيد، مقصدا أعظم لدعوته، بما جعل عمل النبي عليه السلام في الحج عملا إصلاحيا لما كان قد أسسه جداه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وليس تأسيسيا.
ولذلك كان فتح مكة وإعلانها حرما آمنا ومثابة للتوحيد الخالص لا مكان فيه للمشركين تتويجا لرسالة النبي. ومع أهمية هذا التتويج، فليس ركنا من أركان الحج زيارة المدينة التي كان عمل النبي فيها تأسيسيا، فكما حرم إبراهيم مكة فقد حرّم حفيده محمد المدينة. ولو لم يكن محمد عليه السلام نبيا وكان زعيما يبتغي تخليد ذكراه بمركزة كل المآثر وربطها بشخصه لما جعل ركنا عظيما من أركان الإسلام مثل الحج تدور وقائعه كلها حول شخصية أخرى(ابراهيم عليه السلام )، بل ربما كان سيحوّر أعمال الحج بل ربما ينقلها إلى مكان آخر كالمدينة وهو ما كان قد فكر فيه الزعيم الحبشي أبرهة إذ جاء لهدم الكعبة لاتخاذ بلده محجة بدلها.
ثانيا:
1- إن عبادات الإسلام مفعمة بمعاني التوحيد والوحدة وما يقتضيه تحققهما في الواقع من مكابدات وتضحيات ومغالبات للشهوات، بما يجعل عيدي الفطر والأضحى وكأنهما تتويج للنجاح في دورة تدريبية روحية واجتماعية، تمتد بالنسبة لفريضة الصوم طيلة شهر سنويا وتمتد في دورة الحج بين أسبوع وأسبوعين (بعد ثورة المواصلات) مرة واحدة في العمر فرضا على القادرين، الفائز في كل دورة منهما مستحق لترويح ملتزم: فرح وأكل وشرب ومتعة حلال "قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق" (31/7) والسؤال الجدير بالطرح هنا هل الأمة تمتح من معدن عباداتها كالصوم والحج وبالخصوص في المستوى الاجتماعي، ما تستأهل العيد، أي الاحتفاء بالنجاح في امتحان دورة الصوم أو دورة الحج؟ لا شك أن عبادات الإسلام - والالتزام بها في تصاعد والحمد لله رغم كل المعوقات وموازين القوة المختلة- قد حافظت في غياب بقية آليات الإسلام كنظام الشريعة الجامعة والسلطان الجامع القائم على إنفاذها وحماية بيضتها، قد حافظت على حضور الإسلام في حياة الأمة وفي العالم, سواء:
أ- على صعيد الارتباط بالله عز وجل مصدر قوتها وسندها، أم على صعيد الشعور العام بوحدة جماعة المسلمين وما ينبثق عن ذلك من تضامن وتعاون وذب عن حرمات الإسلام في مواجهة حركات الردة والزيغ داخل الأمة ودحضها والشهادة للإسلام بالحجة والبرهان أنه الدين الأصلح.
ويمكن التيقن اليوم أن الإسلام قد حسم لصالحه معركة الهوية ودفع إلى الهامشية مذاهب العلمنة التي طمحت ولا تزال للحلول محله، وما بقي تقريبا من عقبة في طريق دعوة الإسلام أن تسود غير الاستبداد المحلي وظهيره الدولي.

ب- أو على صعيد مقاومة الاحتلال.
ج: أو على صعيد الامتداد بالإسلام في العالم كما لم يحدث مرة في التاريخ. الإسلام عائد بقوة كاسحة ليسود في أرضه وليفرض الاعتراف به فاعلا أساسيا في التاريخ بعد اغتراب. صحيح أنه منذ مائتي سنة وميزان القوة مختل لصالح الغرب وحملاته على بلاد الإسلام تترى، إلا أن أمة الإسلام خلافا لأمم أخرى لم تستسلم.
فرضوا عليها التجزئة فانطلقت شعائر الإسلام تغذي مشاعر الوحدة وتفجر مقاومات شعبية لا تفتر بل تتوالد. وما من شك في أن ظاهرة المقاومة في ظل ميزان قوة مختل من أنبل وأعظم ثمار تربية الإسلام وجهود حركاته الإصلاحية وتعتبر العائق الأكبر الذي تكسرت على صخرته القوى الكبرى.
2- الثابت أن الإسلام واقع في طليعة حركة تاريخية صاعدة وبخاصة خلال الأربعين سنة الأخيرة بينما تيارات العلمنة على الصعيد الدولي وبخاصة في عالم الإسلام واقعة ضمن مسار تاريخي تراجعي لا يحد منه غير امتلاك القوة وأدوات العنف مما لا يعد رصيدا ثابتا لأي حضارة، بدأ هذا المسار بمغادرة إخوان مصر للسجون واستئناف مسار الحركة الإصلاحية المتوقفة التي انحرف بها ميزان القوة الدولي ثم اندلاع الثورة الإسلامية في إيران وطرد السوفيات من أفغانستان واندلاع الانتفاضة في فلسطين فانتقلت راية تحرير فلسطين إلى الأيدي المتوضئة، وجاء التحول في تركيا آخر عاصمة تاريخية للإسلام محطة أخرى كبرى على طريق عودة الإسلام إلى قلب المعركة التاريخية، بما عزز معسكر المقاومة على صعيد المنطقة والعالم، ودفع إلى الاختناق والعزلة ما يسمى بمعسكر الاعتدال والتطبيع بزعامة إدارة أميركية متصهينة طوعا أو كرها.
صمود حماس ومعسكر المقاومة ووقوف معسكر التسوية على شفا الانهيار وتنامي العلاقات الإستراتيجية بين سوريا وتركيا وإيران وقطر والسودان ما قدم ظهيرا لحركات المقاومة على كل صعيد أمر مهم جدا.
3 - تبقى ضروب من الإخلال الخطرة في معسكر الأمة: فشوّ فكر التشدد رد فعل غير عقلاني وغير شرعي على الظلم المحلي مدعوما بالظلمة الكبار، ما أجرى في أكثر من أرض وبالخصوص أرض الإسلام أنهارا من الدماء، في الجزائر والصومال والعراق واليمن وإيران وأفغانستان والشيشان والتركستان.. تأسيسا على استخدام غير مشروع لشريعة الجهاد، بينما انتهى جمهور علماء المسلمين أن الاستخدام المشروع إنما هو في الذب عن ديار المسلمين وطرد الأعداء منها، وما بالأداة المشروعة لحسم الخلافات الفكرية والسياسية داخل مجتمعات الإسلام ولا للدعوة إلى الإسلام من طريق فرض الإسلام على من لا يؤمن به (انظر فقه الجهاد للعلامة القرضاوي).
ومن ثمار القُطرية المتعصبة والتوظيف السياسي ما اندلع خلال موسم الحج من أحداث مؤسفة مخجلة بين قُطرين عظيمين عربيين تحولت لعبة كرة إلى أجواء حربية.
ومن ذلك تعطيل شعائر الحج هذه السنة في قُطر عربي مسلم بذريعة حمايته من الوباء فحل الوباء وفشا في البلاد أشد مما هو في بلاد الحرمين، إلا أن كل هذه الظواهر السلبية وفي مقدمتها الاستبداد لا تغير تحول اتجاه الرياح صوب الحرية في اتجاه الإسلام.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.