يا أولئك الصامتون ... يا أولئك المتفرجون ... يا هؤلاء وأولئك المطمئنون خلف الأبواب الموصدة، المتدفئين بالفراش الوثير، والمتتفعين بالطعام الوفير، والمتمتعين بحياة هادئة خالية من صفّارات الإنذار وصراخ سيارات الإسعاف، وتأوّه المستشفيات، وصرير الأحجار والجدران المنهمرة على الرؤوس والأبدان، وشظايا القنابل التي تحوّل مدارس وشوارع ومئاذن وكنائس إلى ركام وقبور... يا كل هؤلاء، لعلكم تسٱلون ثم تتساءلون من نحن؟ وماذا نريد منكم؟ وأيّ قول نقول في زمن الانحياز للصمت المفروم، وزمن عولمة البؤس والحيف المنثور، وزمن الاصطفاف خلف الفعل المعتلّ، وخلف حروف الجرّ والسكون، وفي عصر اجتياح القيم الإنسانية وطعن القانون . سنقول لكم يا كل الغائصين في تجاعيد الصمت والسكون، أننا ما جئناكم هنا للتشكي والتسوّل والبكاء والعويل، ذلك لأننا آمنا ونؤمن منذ الطفولة ومنذ معركة التحرير أن كثرة التشكّي والبكاء تورّث العجز والانحدار، وأن النفوس الأبية عنوانها الشموخ والكبرياء..
يا كل هؤلاء، نقول لكم بخلاصة الكلام أننا نحن أطفال غزة، خرجنا لكم هنا من ثنايا الغبار من تبعثر التراب ومن رطوبة القبور، من مواويل الأسى من وجع الأنين، من الليل من الفجر من حنايا اللحود، من تفاصيل "عملية عمود الدخان "ومن قبلها مجزرة "الرصاص المسكوب ".. جئناكم يا هؤلاء مخضّبين بأتربة الأرض والتربة والماء والهواء ولون الجذور، لنسجل علامات التحدّي والرفض والتمسّك بالعرض بالكرامة والجذور، لنكتب على جباهكم بقلم صنعناه من صلصال القبور، أن طفولتنا قصفت وبراءتنا اختلست ولا ذنب لنا سوى أننا ننتمي لبلد اسمه فلسطين..لم تكن معنا أثناء قصفنا بالطائرات وتحويل أجسادنا الغضّة إلى لحم مفتّت منثور، سوى كراسات وأقلام ولعب وباقات زعتر وإكليل.. يا هؤلاء جئناكم هنا ملطخين بحنّاء تراب القبور، لنكون لكم ولأمثالكم من المتفرجين وخزاً للضمائر ورجّا للعقول..
يا بعض الكتّاب والإعلاميين والمثقفين.. قد تتوارون، قد تختفون وراء النقاش والبحث والتحليل، قد تساوون بين الجلاد والضحية وتسرفون في التنظير والتبرير. ولكي نختصر عليكم البحث والتفسير نقول لكم نحن أطفال غزة، نقول ما قاله " نضال أديب " (لا شيء أسوأ من خيانة القلم، فالرصاص الغادر قد يقتل أفرادا، بينما القلم الخائن قد يقتل أمما كاملة ).
أيها الناس يا كل الناس
ربما تستفسرون عن هوياتنا، عن بطاقات ميلادنا، عن شكل توقيعاتنا، عن بصماتنا، عن إمضاءاتنا، عن انتماءاتنا.. خلاصة الكلام عنواننا غزة مدينة تحت الحصار، ننتمي لدولة افتراضية منزوعة التحرّك والتجوال، تسيّجها المعابر من كل مكان، تفترس مساحاتها المستوطنات ويفتتها الجدار ..
يا هؤلاء وأولئك..
نحن صبية وصبيان مدينة غزة القابعة منذ سنوات تحت أبشع أشكال الاحتلال، مدينة يحدّها من الشمال دبابات وعسكر وجدار، وجنوبا زوارق حربية جاهزة لإطلاق النار، وغربا مستوطنون أصابعهم على الزناد، ومن الفضاء طائرات تفترس البيوت والأجساد .
يا كل الناس، يا أيها الناس، نحن أطفال غزة يأتينا الرغيف مسموما، ويأتينا الماء مشوّها مذموما، ويأتينا الحلم محموما، ويأتينا الفرح مبتورا، ويأتينا الموت مجنونا، ويأتينا الدعم العربي كسيحا هزيلا.. ومع ذلك سنظل هنا باقون، في الماء والمطر باقون، في الزعتر والزيتون باقون، في المدارس المحطمة باقون، في الشوراع والجسور المهدمة باقون، في الأرض في التربة باقون، في المدن في الأرياف في الجبال باقون، في الذاكرة والمقدسات باقون، في شجر الصنوبر والليمون باقون، في هضاب الإكليل وشجر اللوز باقون ، في الحقول في المزارع في نبتة النعناع باقون، في المواويل والدبكة باقون، في كتب الجغرافيا والتاريخ واللغة باقون، في التربة والهواء والمقابر مزروعون، في حجارة وستائر وحمائم القدس نحن منتشرون، وبكل شبر من بلدنا فلسطين نحن متمسكون .. ولشعب الجبّارين نحن منتمون .