ان تربية الابناء تعد من الواجبات الشرعية التي كلف الله سبحانه وتعالى بها اولي الامر من الاولياء , والمسؤولين والمؤسسات والهيئات , بل تعد كل مؤسسات المجتمع المدني لها جانب من المسؤولية في هذا الصدد . لقد جعل الله الانسان محور هذا الكون وخليفته في الارض لاداء مهمة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بمفهومها الشامل لكل مناحي الحياة . تبعا لذلك تعد مهمة وضع الجيل على السكة الصحيحة من الاولويات خصوصا عندما نكون في مجتمع مليء بالتحديات والمشكلات وعناصر الجذب نحو المنزلقات التي تكون السبب في ضياع الجيل ومن ورائه تردي عطائه وانعدام مساهمته في المسار التنموي العام , وعوضا ان يكون سادا للثغرات الي حوله والتي يقف عليها يصبح عبئا على المجتمع والامة وفاتحا لثغرات تكون سببا لتآكل نسيج مجتمعه من الداخل وخاصة عندما تكون العملية بطيئة وخفية لا يقع التفطن اليها الا بعد فوات الاوان . أن التفكير في بلورة برامج تربوية تقدم حلولا عملية تكون بمثابة ايجابات لمشاكل حقيقية , ليس بأقل قيمة من التفكير في المشاريع الاقتصادية او السياسية , بل اراها تتعدى ذلك من حيث الاهمية لتصبح في اعلى هرم او سلم اولويات الامة , اذ ان للتنمية مجالات متعددة منها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والتحصيل العلمي ...وكلها ميادين قسمت بهذا الشكل كضرورة منهجية فقط من اجل تسهيل البحث العلمي ,ولكنها في الحقيقة ميادين متشابكة ومتفاعلة في مكوناتها اشد التفاعل و لا يمكن فيها فصل الاقتصادي عن السياسي والاجتماعي وغيره فالتنمية كل لا يتجزأ . يعد العنصر البشري المحرك الاساسي لكل تلك المكونات اذ بدونه تتوقف الحياة , لذلك تهتم الدول وبنسب متفاوتة بعناصر الثروة البشرية ومواردها من اجل نهضتها وازدهارها ويعتبر الاهتمام بالجيل الصغير والشبابي من المسائل الملحة بحكم انه يعد من الرصيد الذي سيعول عليه في خلافة من سبقه الى مجالات البناء والمشاركة , كل حسب موقعه , في المسار التنموي والنهضوي لبلده وامته , تبعا لذلك اذا اردت التنبؤ بمستقبل امة ما , انظر الى شبابها فهو يمثل المرآة التي تعكس واقع الامة ومدى نهضتها وتقدمها .. يتحدد سلوك الفرد بصفة عامة والطفل او الناشئ بصفة خاصة داخل مجتمعه من خلال التعرض لمختلف المواقف الثقافية , حيث يتعلم انماط السلوك وانماط العلاقات بين الافراد والقيم والمعتقدات والاتجاهات التي تكون النسيج الثقافي الذي يشترك فيه افراد المجتمع , وهنا تلعب المؤسسات (كنظم الدولة والاسرة والمسجد او الدين بصفة عامة ...)في المجتمع دورا هاما في التنشئة والتطبيع الاجتماعي . تختلف مكونات الثقافة من بلد الى آخر بل تختلف احيانا في داخل المجتمع الواحد خاصة تلك التي تتكون من طوائف واعراق مختلفة او جماعات يربطها انتماء معين عرقي او ديني مثل الجماعات المهاجرة في الغرب . وما يهمنا في مبحثنا هذا هو هذا الصنف الاخير وبالتحديد الجالية المسلمة بالغرب . يعاني الشباب المسلم في هذه الديار نوعا من الازدواجية في مسألة المعايير الاجتماعية ونوعا من التذبذب وانعدام الوضوح في الرؤية لعملية الاندماج والحد الفاصل بينها وبين الذوبان في ثقافة الاخر . بمعنى آخر هناك نوع من الصراع بين السلوكيات السائدة والمقبولة في المجتمع والتي تعرف بالمعايير الاجتماعية حيث يعد الالتزام بها نوعا من التطبيع الاجتماعي وبين الاساليب السلوكية والثقافية وما نقبله او نرفضه من مبادئ وقيم , معايير الصواب والخطأ بصفة عامة . اذا الاشكال يتمثل في عملية المد والجزر او عملية التجاذب بين ما هو ذوبان في الاخر وبين الاندماج في الحراك الاجتماعي بصفة عامة مع المحافضة على الخصوصية الاسلامية , كما يتمثل ايضا في مسألة الضبابية التي تسود خطوط التماس بين كلا العمليتين : الاندماج والذوبان , اين ينتهي الاندماج ليبدا الذوبان , وتحديد المقاييس التي نقيس بها سلوكا ما فنعده في خانة هذا المسار او ذاك ... أفرز عدم وضوح الرؤية حول ذلك واقعا اليما مثل ومازال يمثل تحديا حقيقيا يواجه الجالية ومستقبل الجيل الناشئ . فكيف يمكن لنا رفع هذا التحدي ؟؟ ثم ما هي الوسائل المتاحة بين أيدينا ؟ أسئلة نطرحها على أنفسنا كأسر والحال اننا نحن واضعي حجر الاساس لما يتعلمه الطفل في مراحل تكوينه الاولى من انماط سلوكية تحدد الى حد كبير ان كان الطفل سينمو نموا سليما او العكس . هذا من ناحية ومن ناحية أخرى , وهي تعد في نظري الجانب الاكبر من التحدي الذي نواجهه , كيفية التعامل او الاساليب التي يمكن من خلالها وضع الجيل الذي ترعرع وولد في بيئة مغايرة تماما لبيئة الآباء والآجداد , وهو صاحب مزاج ارتبط ببيئة فيها من التحديات التي تجعل المربي يقرأ ألف حساب لاسلوب التربية قبل المادة التي سيطرحها ... حتى لا أستغرق كثيرا في العموميات سأنطلق , لتوضيح ما اهدف اليه من وراء ما أكتب , من مثال واقعي حيث استدعت احدى الجمعيات , في احدى المدن بفرنسا , محاضرا وكان الموضوع دور الاسرة داخل المجتمع , اغرق الاخ في التنظير وكان قد ابدع في طرحه الفكري استشهد بعلماء كبار في علم الاجتماع وعلم النفس التربوي من منظور اسلامي ..لكنه كان ابعد ما يكون عن هموم الجالية, من شباب كان حاضرا, وأولياء . أكمل السيد خطابه وكان التفاعل ضعيفا او يكاد يكون منعدما , برز ذلك من خلال عدد الاسئلة المطروحة . انتقلت الكلمة بعد ذلك الى امام احد المساجد هنا وهو الذي يطلق عليه ابو الشباب , استاذ جامعي , لكن رغم مركزه ظل الرجل ملتصقا بالاحياء الفقيرة والمهمشة , احياء أغلب سكانها من العرب والمسلمين والافارقة . ظل الرجل متابعا لمشاغل الاحياء ومشاكلها وكان لسان حاله يقول والله لو عثر طفل او انحرف أي شاب لسئلت عليه يوم القيامة ...يعيش بين الاحياء باحثا عن الداء وراء كل تصرف او حادثة يشهدها : لماذا تصرف هذا الشاب على هذا النحو او ذاك ؟ اين الخلل؟ كل تصرف ورائه دوافع لا محالة ولا يأتي هكذا في يوم وليلة , فيصبح المجرم مجرما والسارق سارقا ...انعكس كل ذلك على المادة التي طرحها وقدمها للحضور لم يكن خطابيا ولا حماسيا كان هادئا كأب حنون جلس مع اولاده لارشادهم سواء السبيل , طرح السؤال وقدم الاجابة لم يكتف بتوصيف الواقع الذي الم به تمام الالمام بل طرح الحلول والحلول العملية كان قد طرح الاشكالات الموجودة في هذا الحي او ذاك ولم يأت بغيرها لا من المشرق ولا من المغرب ...بعدما انهى فتح اذنيه واحسن الاستماع لكل من حوله , اخذ تعليقاتهم مأخذ الجد لم يتعال على الحضور , شاركهم أفكارهم , تابع ردود أفعالهم ...كان يعتبر ذلك خطوة نحو البحث عن الحلول او خطوة نحو التقدم بهؤلاء الشباب ولو قليلا نحو وضع أفضل وأحدا ث تغيير في الوعي لديهم . رايت التشريعات الاسلامية تسري في احضان هؤلاء الشباب وكافة الحضور دون ان يشعروا , رأيت القرآن وقد ترجمه الاخ الكريم في شكل مواعظ ونصائح عملية للاولياء و رأيته يسكن قلوبهم ويتسرب اليها بسلاسة واسلوب ذكي ينم عن حكمة وخبرة بأهتمامات وهموم ومشاكل تلك الجالية التي يؤمها , انه امام ورجل ميدان بما للكلمة من معنى , كان مثل الطبيب فحص المريض , شخص الداء وتبعا لذلك وصف الدواء الملائم لتلك الحالة لا غيرها .. في نظري ليس المهم ان تلقي محاضرة متناسقة وملمة بجوانب الموضوع من الناحية النظرية , ودون تنزيل تلك الافكار في الواقع وجعلها او تصنيفها على شكل وصفات دواء لكل داء داخل المجتمع , دون ذلك نصبح كالباحثين او الاطباء الذين يتحدثون عن انواع الامراض ماهيتها واعراضها دون ان يبحثوا في الادوية الشافية لكل علة ثم تنزيلها الى الاسواق لتصبح في متناول الجميع ,بل المهم هو ايجاد نوع من التفاعل بين النظري والواقع او بمعنى آخر خلق تفاعل بين النص والواقع وتحويل الشعارات الى خطوات عملية وكل وثيقة او نظرية الى برامج تفصيلية . الذي يذهب الى محاضرات تحمل عنوانا يمس الحياة الاجتماعية عادة ينتظر من الخطيب ان يقدم له اجابات عن أسئلة جوهرية وعن مشاكل حقيقية يعيشها . للمقال بقية في امان الله