في سابقة غير معتادة من الزعماء والسياسيين العرب نبه الرئيس التونسي المنصف المرزوقي أمس على ضرورة ان تعمل الدولة التونسية على ‘مناهضة التعذيب' وأن تجعل من محاربة ‘هذه الآفة هدفاً أساسياً' لها، وأشار الى ضرورة وجود آليات لمتابعة التعذيب واجتثاثه والبحث عمن يواصل ممارسته. وفي مفارقة صارخة لما يفعله ويقوله الزعماء العرب، قدّم المرزوقي اعتذاراً رسمياً لكل الذين عذبوا في السجون التونسية طيلة الخمسين سنة الماضية قائلاً ‘أتوجه بالاعتذار لكل من عذبوا لأني على رأس الدولة التي ارتكبت التعذيب طيلة 50 سنة'. ولمعرفة المرزوقي بعمق تغلغل التعذيب وممارساته في جذر عقلية الدولة ومن يعملون فيها فقد طالب منظمات المجتمع المدني أن لا تصدق الدولة ‘لأنها يمكن أن تسقط في أياد غير أمينة' داعياً الناس الى مقاومة كل دولة'تمارس التعذيب ‘لأنها لا تستحق المواصلة'. وربما لا يعرف الكثيرون أن الرئيس المرزوقي نفسه كان قد سجن وتعرض للتعذيب عام 1994 وحبسته السلطات التونسية لأشهر في زنزانة انفرادية ولم تفرج السلطات عنه إلا بعد حملة دولية لإطلاق سراحه شارك فيها الزعيم الجنوب الإفريقي الراحل نيلسون مانديلا. يعتبر المرزوقي الرئيس العربي الأول القادم الى الرئاسة من حقل الدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامّة، على عكس الكثرة الكاثرة من الزعماء العرب الذين تأهلوا للحكم عبر طريقين: الأول هو الوراثة، والثاني من خلال أجهزة الأمن والعسكر (أو عبر الوراثة وأجهزة الأمن والعسكر مثل الحال الفريدة للرئيس السوري بشار الأسد)، أي أنهم جاؤوا من بنى اجتماعية تنظر باحتقار لمن دونها، وتنتمي الى عالم وحشيّ وقاس لا يفهم السياسة إلا بمنطق التغلّب والاقصاء والتهشيم. واذا كان هناك من إنجاز رمزيّ كبير للثورة'التونسية فهو في قطعها مع التقليد المزمن الذي يساوي بين تبوؤ أعلى منصب سياسي في الدولة مع الغلبة العسكرية او الأمنية التي تفترض بالضرورة تهشيماً للعدالة الاجتماعية والسياسية في صورة شخص محروس بآليات القمع والدوس على حريات البشر واحتقار كراماتهم. لكن من المؤسف أن الدولة العميقة في تونس وغيرها لن ترعوي عن مواصلة ممارسة التعذيب، وهناك تصريحات لجمعيات مدنية وحقوقية أنه ما يزال يمارس هناك، وخصوصاً ضد المتهمين بقضايا الإرهاب، رغم وجود شخص مثل المرزوقي على رأس جهاز هذه الدولة التي ذاق هو نفسه من آثار غطرستها واستبدادها. وسنكون ساذجين لو اعتبرنا ان التعذيب في الدول العربية يعود الى البنية الاستبدادية لأجهزة الدولة فحسب، والأولى القول أنه يعود الى الثقافة السياسية السائدة في كافة الاتجاهات السياسية العربية، بل إن أكثرها وحشية وانغماساً في القمع والبطش والتنكيل بالشعوب هي الاتجاهات التي نادت بشعارات الثورة والحرية. فتحت دخان الدعاية السياسية التي رفعتها دول ‘ثورية تقدمية اشتراكية' مندّدة بالدول الملكيّة الرجعية ‘العفنة'، مورست أبشع أشكال القمع ضد الشعوب وليس ضد معارضي تلك السلطات فحسب، مما أدّى الى كوارث سياسية واجتماعية هائلة ما زال العرب يدفعون أكلافها الهائلة، وصارت الدول الرجعيّة إيّاها، حلم النازحين واللاجئين والهاربين من تلك الدول التقدّمية التي دمّرت أركان حياة شعوبها. واذا كانت الدول العربية، على اختلاف ايديولوجياتها السياسية، قد تشاركت قيم الاستبداد واحتقار الانسان والاستهانة بتعذيبه، فالحريّ بنا القول أن التعذيب ليس إلا أداة وأن استخدامها لن يتوقف طالما كانت هناك ثقافة سياسية وشعبية عامّة تتقبّله حين يخصّ الآخر، أكان معارضاً سياسياً او مختلفاً بالجنس او اللون او الدين او الطائفة. يتغذى التعذيب من ثقافة كره الآخر وتقبل فكرة استئصاله وحتى ابادته، وهي دائرة مغلقة على نفسها تلتهم الضحايا والجلادين معاً، واذا كانت الدول والنخب مسؤولة عن استمرار هذه الثقافة فالأولى بالضحايا أن يتوحّدوا وأن يكون رفض التعذيب مبدأ سياسيا واخلاقيا حتى ضد الخصوم.