مطار بلادي الدولي- كما لا يعرف بعض الناس- صار مسرحا لتصفية حسابات النظام مع المعارضين. فالمعارضون في تونس لم يعودوا يمنعون (كلّهم) من السفر، وذلك حتى يقال "إنّهم أحرار". وإذا سافروا كان حسابهم عسيرا في المطار أو الميناء أو أيّة نقطة حدودية. أنا أيضا من الأشخاص الذين تقع مضايقتهم عند السفر أو العودة منه. ولكن يمكنني القول إنّي –بالقياس إلى غيري من الرفاق والرفيقات- من "مدلّلي المطار" أحظى فيه "بحصانة" نسبية فلا شتم ولا تهديد ولا ضرب كما يقع للآخرين. بل مجرد مضايقات "خفيفة" كثيرا ما تنتهي بلا أضرار عدا الضرر المعنويّ المتمثل في شعور كريه بأنّي مواطنة من درجة ثانية تُتعمد معاملتها معاملة "خاصّة" قصد إذلالها وإشعارها بأنّها تحت رحمة النظام وأجهزته. يوم السبت 28 نوفمبر 2009 تغيّر الوضع ورفعت عنّي "حصانة المطار". كنت عائدة من رحلة طويلة ومتعبة إلى الولاياتالمتحدة حيث تم تكريمي من قبل "لجنة حماية الصحافيين" التي منحتني جائزتها السنوية. لم ألاحظ شيئا غير عادي إلاّ بعد تجاوز نقطة الشرطة الحدودية، وبوصولي إلى منطقة تسلّم الأمتعة ونقطة التفتيش الجمركي وجدت نفسي في مطار شبه مقفر... أين الناس ؟ أين رفاق السفر ؟ لقد تبخّروا بمفعول سحريّ ! بدل رفاقي في السفر وجدت نفسي أمام عدد من البوليس بالزي المدني وعدد من عناصر الديوانة، وحتى ذلك الوقت لم أستغرب فقد اعتدت أن يفرغ المطار من أجلي حتى لا يستمع المسافرون إلى احتجاجاتي بصوت عال على الإجراءات التعسفية التي أتعرض إليها. أخذت أمتعتي واتجهت إلى نقطة التفتيش الجمركي، فجاء عون من الديوانة وطلب منّي التوجه إلى غرفة صغيرة، أدركت بسرعة وظيفتها وعرفت أنّي سأجرّب لأوّل مرة في حياتي غرفة التفتيش البدني. احتججت بشدّة وسألت الأعوان المحيطين بي عن سبب هذه المعاملة الجديدة ورفضت دخول الغرفة. وعندئذ ضاق حولي طوق بوليسي مهدد ومخيف وتقدم منّي مساعد محافظ المطار فكلّمني بغلظة ورفع يده مهددا بضربي وحاول دفعي إلى الغرفة المذكورة وقال لي إنّه يطبّق عليّ "القانون" وعلى "أمثالي"، وقد نطق الكلمة الأخير بازدراء. لم تكن سنّي ولا حالتي الصحية تسمحان لي بالتمادي في المقاومة فدخلت الحجرة وفُتشت ولم "يُعثر" لديّ على شيء وخرجت. عند خروجي وجدت مساعد المحافظ وعناصر البوليس قد انصرفوا جميعا. لقد انتهت مهمّتهم فهم لم يحضروا لمعاينة مسكي لممنوعات محتملة بل هدفهم الوحيد- أو بالأحرى هدف من أرسلهم- هو إدخالي لتلك الحجرة، قصد ماذا يا ترى ؟ إذا كان المقصود هو إشعاري بأنّي غير مستثناة من دورة أفلام الرعب التي يديرها النظام وما يزال في هذه الأيام ضدّ الكتاب الأحرار ونشطاء حقوق الإنسان، فإنّي شاعرة بذلك تماما. فالمكالمات الهاتفية "المجهولة" ما تزال تصلني وتوقظني في آخر الليل أحيانا لتكيل لي الشتائم والتهديدات. وحملات التشويه على الجرائد ومواقع الانترنت بلغتني أصداؤها والبوليس حاصر بيتي أيّاما كما فعل مع الكثيرين. وإذا كان المقصود هو إفساد "فرحتي" بجائزة لجنة حماية الصحافيين وإشعاري بأنّي كرّمت في الخارج وليس في بلادي إلاّ الإهانة، فليعلم الجميع أنّ الجوائز لا تفرحني إلاّ بقدر اعترافها بأنّ في تونس كتّابا وكاتبات صحفيين وصحفيات لم يسكتهم القمع والترويع، وليعلم الجميع أنّ جائزتي الحقيقية ما زلت أنتظرها وهي أن أرى بلدي ينعم بالحرية. وليعلم الجميع أخيرا بأنّي كنت كريمة قبل دخول تلك الحجرة السخيفة، ولمّا خرجت منها لم ينقص شعوري بكرامتي وبأنّ طوقا بوليسيّا لا يمكن أن ينزع عنّي تكريما نلته من قرائي قبل أن أناله من أيّ أحد آخر. أمّا إذا القصد هو تذكيري بأنّني هُدّدت منذ أكثر من عام بأن يقع الانتقام منّي ومن زوجي وأولادي وبأنّ هذا الانتقام قد يأخذ أشكالا غادرة تستعمل فيها كالعادة إحدى مؤسسات الدولة أو إدارة أمنيّة أو غيرها من المصالح... فليعلم الجماعة أنّي لم أنس فنسيانهم "صعب كثير" كما تعنّي المعنّية (وأستغلّ هذه الفرصة لأسألهم متى سيفكرون في عمل شيء طيّب واحد على الأقلّ يتذكرهم به الناس ؟) كلاّ لم أنس التهديد وقد نبّهت إليه في حينه، وأعيد التنبيه الآن ولكنّ ذلك لن يمنعني من مواصلة حياتي، فقدري بيد الله وبيدي وليس بيد أحد آخر كائنا من كان.