تعرّفت على عامر بوزقرّو عند تحوّلي من المعهد الثانوي المختلط بماطر إلى المعهد الثانوي المختلط بمنزل بورقيبة سنة 1972، عرفته ضمن كوكبة كريمة لا أذكر منها أحدا خشية عدم الإنصاف، فالذّاكرة قد احتفظت وفرّطت!... وعامر هو من عائلة طيّبة سكنت هناك في شارع الخرّوب نهاية المنطقة السكنيّة بوسط منزل بورقيبة من الجهة الشرقيّة، عُرفَت عند النّاس الأقارب والأباعد بالكرم والانفتاح على الآخرين. رئيسها عمّي عمر بن عامر بوزقرّو رحمه الله، صاحب سيارة الأجرة المعروفة وصاحب العلاقات الواسعة، وحاضنتها أمّ الجميع أمّي ناجية سلامة رحمها الله تعالى. ولعامر في العائلة د رجة المربّي الذي ذاع خبره بين الجيران ورُئي مثالا للاستقامة يتمنّى الجميع تربية أولادهم على منوال تربيته وأخذا بخلقه أو بعضا من خلقه!... كان عامر يُحسن رياضة السرعة للمسافات القصيرة 100 متر و200 متر وكرة السلّة وغيرها من الرّياضات، وكان شديد الميل إلى الأناشيد الإسلاميّة يحفظها ويردّدها بصوت جميل جذّاب وكان من خيرة أبناء خليّة الفتية والإيمان، تلك التي نشطت في القاعة المجاورة والتابعة للمسجد الجديد بمنزل بورقيبة الواقع قبالة محطّة النّقل العمومي للحافلات الرّابطة بين المدن والتي حرص فيها أخونا الفاضل بشير الواتي وثلّة طيّبة معه على تكوين الشباب، جزاهم الله عنّا خيرا!... تمكّنا سويّا مع خيرة أقراننا من اجتياز امتحان الباكالوريا علوم رياضيات سنة 1975، ذاك الامتحان الذي تكرّر نظرا لشبهة سرقة حامت حول الدورة العادية فيه. ثمّ كان أن التحقنا بالأكادميّة العسكريّة بفندق الجديد في أكتوبر 1975 وظللنا بها نترشّف سعادة صداقة استثنائية خلّدت الكثير من القصص والنّوادر حيث تخرّجنا منها برتبة ملازم صائفة 1979... فرّق يومها بيننا الاختصاص، ففي حين اخترت أنا ما اخترت اختار عامر سلاح الدّفاع الجوّي، الذي استغرق التطبيق فيه سنة كاملة بالمدرسة التطبيقية لمختلف الأسلحة ختم باستلام الرتبة الجديدة ملازم أوّل لينطلق كلّ منّا إلى وجهته في الثكنة التي ابتدأ بها العمل!... عامر طيّب طيبة استثنائية وكريم وجواد ومقدام وغيور على حرمات الله تعالى ومسؤول عائلة!... وقد تواصلت تلك المسؤوليّة بارزة حتّى بدأت بالتراجع فترة ما بعد الزواج... فقد شاء له الله تعالى الارتباط بمن لم يحفظ له سمته ومنزلته في العائلة، ولكنّه ما فقد الاحترام والتبجيل والعناية والحبّ يوما في العائلة... ويوم تزوّجت من زوجة اختارها لي عامر، وهي أخته، بارك الله فيه وفيها وفي الأهل جميعا، كان طلبي منها أن يا نجاة اكسبي أمّي وأبي فإنّك إن فعلت غنمنا الرّاحة والهناء والرّضا، فكانت أن أخذت بالنّصيحة حتّى رُئِيتُ بالعائلة شبه منبوذ ورأيتها هي حصينة لا تستطيع شكاوايَ بها النّفاذ إلى أمّي وأبي، فقد كانت عندهم الطيّبة وكنت أنا المتّهم ربّما بسوء التعامل مع الطيّبين، والحمد لله ربّ العالمين... وأمّا عامر فإنّ التي ارتبط بها لم تفلح فيما أفلحت فيه نجاة!... ثمّ مرّت الأيّام سريعة وشاء الله أن نكون جنبا لجنب ضمن مجموعة الإنقاذ الوطني 87، تلك القضيّة التي عرّفتنا بفضل داخلية بلادنا عند النّاس مفسدين ثمّ ما لبثت أن رمتنا في الشارع ببطاقات هويّة تظهرنا عاطلين!... كان لذلك الحدث وقع سيّئ على بعض النّاس، ففي النّاس من يقبلك ضابطا ولا يقبلك عاملا يوميّا كما صرنا بعد فترة سجننا!... ومن ذلك التصرّف عانى عامر كثيرا وصابر بالمقابل كثيرا وأثار أصدقاءه كثيرا... فإنّه ما كان ينبغي أن يساير النّاس أو يجاملهم إذا ما النّاس زهدوا فيه ورأوا قامته قصيرة لا تضاهي قاماتهم، بل كان عليه أن يلزمهم حدودهم ولا يقع فريسة لجشعهم الاستثنائي الذي جعله بالبيت مجرّد نزيل لا يملك حتّى موقع النّزول!... بالإضافة إلى ذلك فقد عاش عامر ما يعيشه الكثير من أبناء هذه المجموعة الوطنيّة من حرمان أذكى في عناصرها الكثير من الأمراض والعلل، فكان نصيب عامر ارتفاع ضغط دم استثنائي يصل حد الثلاث وعشرين (23)، تطوّر بعد ذلك ليترجم جلطات تنبئ بما لا تحمد عقباه!... كان عامر يقع بين إهمال المسؤولين عن قضايا التونسيين وبين تنكّر جزء من عائلته وعتاب الجزء الآخر منها له!... عتاب ينكر ذلك التنكّر وينكر قبول عامر للتنكّر!... خزّن القلب كثيرا وألجم اللسان فلم يدع للقلب متنفّسا به ومنه يخفّف... ثمّ دخل عامر مرحلة الهجرة، هجرة لذائذ الدنيا ودفء العائلة فوجد راحته في السفر، ولكنّه سفر بلا أهداف واضحة أو محدّدة، فلعلّه نزل اليوم ببابك ليرحل غدا عن بابك مستعملا في رحلاته الأتوستوب الذي تندّر النّاس ببراعته فيه!... كنت أتابع أخي وأفهمه وأتألّم له دون أن أستطيع فعل شيء له!... ويوم جاءت الثورة ظنّ عامر وظننّا أن قد حان الوقت لنضع الرّحال ونتنفّس بعض الهواء غير الملوّث، ولكنّ الساسة جعلوها مباريات تلفزيّة بعيدة عن القضايا الحقيقية، بل لقد تأذّى الإسلاميون زمن "حكم الإسلاميين" أكثر من ذي قبل، وقد تمركز "الوطنيون" في الزوايا يحذّرون النّاس من نضال يُباع بالكيلووات، لم تكن نوعيته مخزّنة إلّا عند عامر وأمثاله ممّن حملوا أثقال مجتمع سمّاهم مفسدين!... ثمّ كان لهذا القلب أن بلغ حدّ الاحتمال وعجز عن التحمّل فأعلن انسحابه بتزكيّة ربّه تعالى من دنيا قلّ النّصير وكثر المتربّص فيها، فانتقل عامر ذلك الشهم إلى ربّه تعالى يوم السبت 17 جانفي 2015، يشكو ظلم الأقارب والأباعد ويغنم إن شاء الله راحة سيعوّضه الله فيها بإذنه أهلا خيرا من أهله ودارا خيرا من داره!... أسأل الله لأخي جنّة الفردوس وأسأله أن يلحقنا به غير فاتنين ولا مفتونين وألّا يحرمنا أجره ولا يفتنّا بعده وإنّا لله وإنّا إليه راجعون!....