زكيّة بنت عمر بن عامر بوزقرّو، ولدت بالمنستير وترعرعت وكبرت وتمدرست بمنزل بورقيبة...، لم تتخلّف عن طليعة الصحوة الإسلاميّة فكانت أوّل من نال شرف لبس الزيّ الإسلامي في الجهة!... كتب الله سبحانه وتعالى لها الارتباط بأحد المناضلين المجاهدين المربّين الأخ يوسف بن حميد!... ابتليت أوّل إنجابها ببنت معاقة فأرت مَن عرفها دروسا في الصبر والاحتساب والأمومة الصادقة الاستثنائية!... ثارت ثائرة النّظام الحاكم بشريعة الشرّ على سلوكها فكانت في متناول أعوانه الرّافضين للدّين والمتديّنين لا سيّما خلال فترة التسعينات التي بلغ فيها ابتلاء العائلة الكبيرة (قلبا وأطرافا) أوجه!... فقد كان أفراد العائلة جميعا - باستثناء أخويها الأصغرين اللذين حُصّنا عند النّظام من قبل بعائدات "مواطنينا في الخارج" – بين طريد ومهجّر وسجين، ولم يبق منها إلّا النّساء في عالم العراء الفاقد للسند!... كانت زكيّة العائل لأطفالها، الحاضن – رغم الحاجة – للكثير من أقاربها وجيرانها!... ركبت درّاجتها النّاريّة واتّصلت بمن يسّرهم الله للتعامل معها فشقّت طريقها في عالم "الرّجال" الذي غاب عنه الرّجال، تتعرّف على الصنعة في ميدان الحليب ومشتقّاته، تتقنها وتتكسّب منها!... تُطعم منها أطفالها تصل بها أرحامها توفّر منها "القفّة" والزيارة لزوجها وأخيها تلفت النّظر إلى أنّ أحدا في الدنيا لن يستطيع منع رزق أبنائها ورزقها!... ينشط "كلاب الحاكم" – كما عرفوا إبّانئذ – فيتّصلون بالحرفاء يهدّدونهم ينذرونهم التعامل معها، يعطونهم البديل عنها!... يُحكِمون حولها الرّقابة ويزرعون حول زبائنها الكثير من الصبّابة!... تبدو للمتفكّرين في الله وفي خلقه ناصعة بيضاء واضحة تلكم الحقيقة التي رفعت عن كتابتها الأقلام وجفّت بعد كتابتها الصحف: "واعلم أنّ الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلّا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء لم يضرّوك إلّا بشيء قد كتبه الله عليك"!... كانت زكيّة تواجه المنافقين بهذا الإصرار الذي بناه فيها إيمانها الرّاسخ الذي بنت به هي الكثير من النّاس!... لم يقتصر جهدُ زكيّة على الجيران الأقارب ولكنّه تعدّاهم إلى الأباعد من سكّان الرّيف ممّن عرفتْ منهم بالمصاهرة أو غيرها من وسائل التعارف بين النّاس، فقد كانت رحلاتها إلى ريف ماطر حيث والدَا كاتبِ هذه الكلمات اللّذان عافهما النّاس لسوء ما جُبل عليه النّاس، تزورهما تصلهما تخفّف عنهما وطأة الوحدة والمقاطعة التي جاءت بسبب "فساد وإجرام ولديهما"، تصل ابنهما بهما من خلال ما يصوّر أخوها المهاجر من مشاهد ناطقة لن ينساها ما حيي، ولن يكتمها يوم يقف الجميع أمام الحاكم العادل المخرس للطغاة بالسؤال الممتنعة إجابته عنهم: "لمن الملك اليوم"!... تتعدّد مصادر المعلومة لدى "كلاب الحاكم"!... يسعون لإبطال جهودها، كلّ جهودها!... يستدعونها المرّات المتعدّدة إلى مخافر الشرطة المحليّة (منزل بورقيبة)... يجبرونها على الإمضاء لنزع الحجاب عنها، يمزّقون حجابها كلّ مرّة يستدعونها!... يصرّون وتصرّ... تشتدّ الحرب بين الحقّ والباطل بين الفضيلة والرّذيلة بين الكرم واللؤم!... تُستدعى إلى مقرّات الدّاخليّة حيث الكثير من الخفايا لم تكشف وظلّت داخليّة!... هناك عذّبت كثيرا وأوذيت كثيرا حتّى لتراها اليوم ومنذ ذلك التاريخ فاقدة للسمع بالكلّية!... أفقدوها سمعها؛ الكلاب!... يريدون قطع اتّصالها بالعالم الخارجي!... فتظلّ بقلبها كثيرة الاتّصال به؛ رغم أنف الكلاب!... وفي بوقطفة (أمن الدولة ببنزرت) يبذل الكلاب كلّ جهدهم كي لا يقعوا في الاستثناء بعيدا عن إخوانهم الكلاب!... يعذّبونها عذابا شديدا يروّعون أبناءها الذين لا يزالون يرون مشاهد تلكم الأيّام ماثلة في شخصياتهم لصغيرة!... كانوا يفعلون ما يفعلون للبحث عن زوج هو يومئذ لديهم قد سلّمته سلطات القائد الأممي المقبور استجابة للتّعاون العربي الذي به ذلّ العربيّ ونكّست به رايته وقلّ به شأنه بين الخلائق!... لم تنتظر زكيّة 14 جانفي حتّى تعلن رفضها لصانع التغيير فتصفه بالمخلوع كما يفعل الكثير من المنافقين اليوم، ولكنّها كانت – شأن أمّها ناجية سلامة رحمها الله – رافضة لصانع التغيير القائم بجبروته وجهالته، رافضة "لفرحة الحياة" في ظلّ حكمه، رافضة لسلوك كلابه المقاومين اليوم للحكومة المنتخبة الشرعيّة!... ويوم جاءت الثورة وهمّت زكيّة بالفرحة منعها من ذلك داءٌ عضال قُدّر له أن يسكن صدرها في محاولة لقراءة ما عمره من ملفّات الظلم والتعدّي على الإنسان وعلى كرامة الإنسان الذي كثيرا ما يحدث باسم "حقوق اإنسان"!... سكن ذلك القلب الحسّاس اليقظ السليم ليسقِمه، وقد بات يسقم من القلوب اليوم سليمُها!... سرطان غير منتظر اختلى بها في صدرها، هناك في بيتها بمنزل بورقيبة؛ لولا التفاف زوج كريم وأهل طيّبين من حولها!... يعتنون بها يكرمونها يُخفون عنها اسم مرضها (يحسبون ذلك رفقًا بها)!... سرطان أكل الأخضر واليابس وأرهق زوجها الذي دعته سنّه افتراضا إلى بعض الرّاحة دون أن ينقص ذلك من جهده شيئا!... سرطان لم يحرّض النّاس الذين عرفتهم زكيّة وعملت بمعيّتهم أو في مقدّمتهم إلى بذل أقصى الجهد لإشعارها – وهي بحاجة إلى ذلك – أنّ أخوّة هازمة للسرطان قد جاءت إليها اليوم مناصرة!... تدفع عن العائلة حاجتها تحمل عنها أثقالها تخفّف عنها وطأة الأيّام التي نالت من سمتها!... وإذ يبلغني اليوم امتناعها حتّى عن تناول الأدويّة التي هدّت جسمها وأنحلته، فقد خشيت أن يكون ذلك رسالة منها تؤدّب بها سلوكا غشّانا أيّام النّعمة، وقد كنّا بالأمس القريب - ونحن محاصرون ممنوعون – نعيش برفعة معاني الجسد الواحد الذي ضربه الرّسول الحبيب صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم مثالا لتوادّ المسلمين وتعاطفهم وتراحمهم!... بعد هذا، يبقى أن نتوجّه للكريم ربّ النّاس مذهب الباس بالدعاء سائلينه أن يشفي زكيّة ومن كان في وضعها شفاء عاجلا لا يغادر سقما وأن يجعلنا – كما كنّا دائما – نتداعى لمن ابتلي منّا بكلّ ما نستطيع، والله من وراء القصد...