شد الملاحظون أنفاسهم وهم يتابعون أخبار الشيخ الباجي في زيارته الرسمية الأولى إلى الخارج. أوشك اليوم الثاني على الانقضاء والجماعة يملئون أجندة ضيفهم بلقاءات ثانوية. دبّ بعض الشك إلى الكثيرين. هل تكون الجزائر غير راضية على توجه الفريق الجديد الذي وصل إلى حكم تونس كنتيجة لعملية متدرجة على مراحل انتخابية هلل لها الجميع داخلا وخارجا ومنهم الجزائر. نعم الجزائر دعّمت المنظومة القديمة بقيادة شيخها الباجي الذي يحلو له أن يصف الرئيس الجزائري بالصديق العزيز. ولم تنته الزيارة لا بعد أن نجح النظام في الجزائر في تهيئة ظروف وديكور الصورة التذكارية للرئيسين، وهي الهدف الأول للزيارة. ورد ومرطبات وحركات آلية متكررة، أما الابتسامات فهي محتشمة لعل آلاما في الظهر أو غيره كانت تعصر الشيخين في قصر الضيافة بالجزائر، تسببت في غياب الابتسامة عن وجهي الرئيسين كما غابت تماما عن وجوه الشعوب المغاربية. قدر الشعوب المغاربية أن يحكمها العجزة إن بالانتخابات الحرة النزيهة (على الأقل ظاهريا) مثل انتخابات تونس أو غير ذلك في الجزائر. ورغم كل الغبش الذي طبع صعود الرئيسين إلى أعلا هرم السلطة في الجزائر وفي تونس، إلا أن الشعوب قبلت بهما وتمنت لهما النجاح، تنازل شعب تونس عن ذاك المطلب الكبير الذي نال به احترام العالم "خبز وماء وبن علي لا" وتمنى لعجوزه أن يكون قادرا على أن يحقق له القليل القليل من تطلعاته: الأمن والشغل. وهو ما من أجله جعل السيد الباجي من الجارة الكبرى الغنية الفقيرة الجزائر وجهته الأولى. الاستقبال المتواضع للشيخ الباجي في زيارة كان الجميع ينتظر منها الكثير، قد تكون له أسباب. قال لي أحدهم: لقد جاء السيد السبسي في الوقت الغير مناسب، لأن خزينة الجزائر وإن بقي فيها شيء من المخزون إلا أنها في تناقص متسارع ومخيف، تجعل من القادة الجزائرية أقل كرما من ذي قبل... كلام لم يعجبني، بل استفزني. أنا لا أحب لتونس أن تمد يدها وقد رفعت شعار "الكرامة قبل الخبز". ثم أن هناك مغالطة كبيرة تمرّ على الجميع شعبا ونخبا، وهي أن المساعدات على مرور التاريخ لا تغير وضع بلد بشكل دائم. صحيح أن الجزائر أعطت مساعدات لتونس، لكنها لا تتعدى أنها مساعدات لا تغير شيئا من وضع تونس. الدول دمها بارد، هي كيانات بغير إحساس وهذا ينطبق على الجزائر وحتى تونس وغيرها. مشكورة هي الجزائر على مساعداتها وملامة هي تونس أن تبحث على الحلول خارجها. أحسب أن البرودة في العلاقات بين الفريق الجديد الحاكم في تونس والنظام الجزائري رغم التصريحات المطمئنة والكاذبة أحيانا يكون سببها خلاف حقيقي في القراءات السياسية، رغم تقارب في الرؤى في الملفات الأمنية. الجزائر تكون غير مرتاحة للتوجه الخليجي للفريق الحاكم الجديد في تونس. وما يزيد في تخوفها يكون ارتباط بعض الحاكمين الجدد بالكيان الصهيوني على المستويين الفكري بالتقليل من خطر التطبيع والعملي بعلاقات فعلية بعضها معلن وبعضها خفي. لعل الجزائر تكون نادمة على دعم معنوي قوي ومسبق منها للسيد الباجي بعد أن يئست من قدرة الإسلاميين على الحكم. وقد يكون سبب عدم الرضا الجزائري متصل بالإسلاميين أصلا، إذ كانت تنتظر من السيد الباجي وقد نصحته وضغطت عليه أن يشرك النهضة في الحكومة، فلما أقصاها زاد تأكد الجزائر من قوة الضغط الخليجي والفرنسي على الحاكم الجديد. ولعل رفض النهضة للحكومة الأولى التي اقترحها السيد الحبيب الصيد يكون بسبب علم الشيخ راشد أن الجزائر ترى بتشريكها. ضغطت الجزائر على النهضة لتترك مكانها للمنظومة القديمة فقبل الشيخ راشد ودعم السيد الباجي ضد خصمه في سياسة الجنون. هذا أما ضغط الجزائر لتشريك النهضة في الحكومة فليس لسواد عيونها، ولا لقناعة من النظام بالنهضة بل على العكس من ذلك. حكام الجزائر لا تحبون النهضة، قد يكونون في بداية الثورة أبدوا اهتماما للتعرف عليها وفهمها، لكنهم بخبرتهم السياسية الكبيرة سرعان ما فهموا عدم صلاحها للحكم، وتخوّفوا من إصرارها على التوجه شرقا بعد أن ترأس دبلوماسيتها رجل محسوب على قطر وعامل في جزيرتها. الجزائر تكون قد طوت صفحة النهضة رغم الاستقبالات الفلكلورية، قبل أن يطويها شعب تونس وحتى نخبه. لحكام الجزائر إخفاقات ونجاحات، أما الإخفاقات فهي كثيرة في السياسة والاقتصاد والتسيير وغيرها. أحد أهم نجاحات نظام الحكم في الجزائر يكون قدرته على ترويض معارضيه باللين والقوة على حد السواء. نجحت الجزائر في التقليص من شعبية المعارضة عامة والإسلاميين خاصة كما لم ينجح في ذلك نظام عربي. الجيش المصري لم يستطع تحييد إسلامييه إلا بذاك العنف اللامسبوق ضد رابعة، ورغم ذلك لم يضعفهم، بل على العكس كل التحاليل تؤكد أنه هو الخاسر في النهاية. نظام الجزائر نجح في أن يجعل الناخب يعزف عن الإسلاميين بإرادته، وسحب منهم أهم أوراقهم المرجعية الإسلامية. كان صاحب القرار الجزائري ينتظر من حكام تونس الجدد أن يسيروا على خطاه، يشركون الإسلاميين في حكم لا يأتي بتنمية ولا بشريعة إسلامية، فيتميّعون ويذهب تميزهم، ويتساوون بغيرهم من التيارات، ويصعب عليهم تقديم برنامجا يكون هو المقياس، وليس ما ترسب في أذهان الناس أنهم إلى الله أقرب ولدينه أخلص. لكل تلك الأسباب يكون السيد الباجي عاد من الجزائر بخفي حنين لشخصه ولحزبه ولتونس أيضا. الجزائر في 6 فيفري 2015