مشروع تهييئة المدخل الجنوبي للعاصمة ستنتهي اشغاله في اواخر شهر ديسمبر 2025    تونس تتلقى دعوة للمشاركة في قمة "استثمر في باوتشي" خلال شهر جويلية 2025    قضية التآمر 2: 21 متهما..هذه قائمة الموقوفين والمحلين بحالة فرار..    رسمي: ''الويفي'' مجّاني في هذه المطارات التونسية    تونس: أسعار ''علّوش'' العيد بين 800 و مليون و200 دينار    عاجل/ عشرات القتلى والجرحى بقصف متبادل وباكستان تعلن إسقاط 5 مقاتلات هندية..    مصر وقطر في بيان مشترك: "جهودنا في وساطة غزة مستمرة ومنسقة"..    هدف فراتيسي يحسم تأهل إنتر لنهائي رابطة الأبطال بفوز مثير على برشلونة    بطولة الكويت : طه ياسين الخنيسي هداف مع نادي الكويت امام العربي    باريس سان جيرمان وأرسنال..موعد المباراة والقنوات الناقلة    التوقعات الجوية لهذا اليوم..    يهم أولياء تلاميذ المدارس الابتدائية: تعرفوا على روزنامة الامتحانات المتبقية    قفصة: أفاعي سامة تهدد التونسيين في الصيف    يقطع الكهرباء ويجدول الديون.. القبض على شخص ينتحل صفة عون ستاغ..    سامي المقدم: معرض تونس للكتاب 39... متاهة تنظيمية حقيقية    نفوق الأبقار: فلاحو بنزرت يستغثون    تعليق الرحلات بمطار صنعاء عقب هجوم إسرائيلي    الإصابة تنهي موسم المهاجم الدولي إلياس سعد    المهدية: تحيّل باسم ''الستاغ'' وسلب أموال المواطنين    وزارة الصحة: احمي سَمعِك قبل ما تندم... الصوت العالي ما يرحمش    رسالة من البابا فرنسيس في مقابلة لم تنشر في حياته    باكستان تتهم الهند بشن هجوم على محطة الطاقة الكهرومائية    مصطفى عبد الكبير: لا زيادات جمركية على الواردات التونسية نحو ليبيا والحركة التجارية طبيعية    الصين: روبوت يخرج عن السيطرة و'يهاجم' مبرمجيه!    واشنطن تعلن تهريب خمسة معارضين فنزويليين من داخل كاراكاس    الترفيع في نسق نقل الفسفاط عبر السكك الحديدية بداية من جوان 2025    كوريا الشمالية.. الزعيم يرفع إنتاج الذخائر لمستوى قياسي ويعلن الجاهزية القصوى    المهدية: اختتام مهرجان الوثائقي الجوّال في نسخته الرابعة: الفيلم المصري «راقودة» يفوز بالجائزة الأولى    في تعاون ثقافي قطري تونسي ... ماسح الأحذية» في المسابقة الرسمية للمهرجان الدولي للمونودراما    تنصيب الأعضاء بمباركة الوزارة...تعاونية الرياضيين مكسب كبير    ر م ع ديوان الحبوب: جاهزون للموسم الفلاحي    أخبار فلاحية.. أهم الاستعدادات لعيد الإضحى وتأمين أضاحي سليمة    أقر اجراءات استثنائية.. مجلس وزاري مضيق حول تحسين جودة قطاع النقل    البرلمان يصادق على قرض من البنك الإفريقي للتنمية قيمته 270 مليون دينار    كاس العالم للاندية 2025: مباراة فاصلة بين لوس انجلس ونادي امريكا لتعويض ليون المكسيكي    ديناميكية التحويلات: مساهمة حيوية للمغتربين في دعم الاقتصاد التونسي    زغوان: امتلاء سدود وبحيرات الجهة بنسبة تتجاوز 43 بالمائة    افتتاح مقر جديد بتونس للشركة السويسرية "روش فارما" بتونس وليبيا    مجموعة شعرية جديدة للشاعرة التونسية وداد الحبيب    قبل أن تحج: تعرف على أخطر المحرمات التي قد تُفسد مناسك حجك بالكامل!    ثورة في عالم الموضة: أول حقيبة يد مصنوعة من ''جلد ديناصور''    تظاهرة ثقافية في باجة احتفالا بشهر التراث    اختتام الدورة العاشرة لمهرجان "سيكا جاز"    قابس: وفاة شخصين وإصابة 8 آخرين في حادث مرور    دليلك الكامل لمناسك الحج خطوة بخطوة: من الإحرام إلى طواف الوداع    انطلاق محاكمة المتهمين في قضية "التآمر على أمن الدولة 2"    هام/ تطوّرات الوضع الجوي خلال الأيام القادمة..    منزل بوزلفة: الاحتفاظ بتلميذ من أجل إضرام النار بمؤسسة تربوية    بعد نقصها وارتفاع أسعارها: بشرى سارة بخصوص مادة البطاطا..    الدورة الثامنة لتظاهرة 'الايام الرومانية بالجم - تيتدروس' يومي 10 و11 ماي بمدينة الجم    حملات أمنية على مروّجي المخدرات وحجز كميات متفاوتة من مخدّري القنب الهندي والكوكايين    كل ما تريد معرفته عن حفلة ''Met Gala 2025''    المنتخب التونسي في ثلاث مواجهات ودية استعداداً لتصفيات مونديال 2026    خبراء يحذّرون و يدقون ناقوس الخطر: ''فلاتر التجميل'' أدوات قاتلة    سعيد: تونس تحملت الكثير من الأعباء ولا مجال ان تكون معبرا أو مقرّا للمهاجرين غير النّظاميّين    بطولة روما للتنس :انس جابر تستهل مشوارها بملاقاة التشيكية كفيتوفا والرومانية بيغو    ملف الأسبوع.. تَجَنُّبوا الأسماءِ المَكروهةِ معانِيها .. اتّقوا الله في ذرّياتكم    أولا وأخيرا: أم القضايا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في التراجع عن المواقف الخاطئة : جان جاك روسو نموذجا
نشر في الحوار نت يوم 10 - 07 - 2015

لا جدال في أنّ هناك جدليّة قائمة بين الموقف من حدث ما- بما هو ردّة فعل في علاقة بإعجاب الإنسان أو مقته لهذا الحدث- والصورة الإيجابية أو السلبية التي يخلّفها لدينا هذا الحدث في علاقة بالزمان والمكان. ذلك أن إختلاف الزمان أو المكان- بما هو اختلاف للظروف- قد يجعل الإنسان يغيّر موقفه من النقيض إلى النقيض، أو على الأقلّ يعدّله ليكون أكثر عقلانيّة و موضوعيّة ورصانة. ومعلوم أنّه خارج إطار الدين، لا أحد بإمكانه الإدّعاء بأنّه يمتلك الحقيقة المطلقة. لأنّ الثابت أنّ هناك حقيقة متعدّدة ونسبيّة لا حقيقة واحدة ومطلقة. لذلك إختلف الفلاسفة في تعريف الحقيقة فنظر إليها "أفلاطون" كواقع مفارق لعالمنا الحسّي، وأعتبرها "أرسطو" كواقع محايث -أي أنّها موجودة في العالم الحسّي وليست مفارقة له- ونظر إليها "ديكارت" باعتبارها مطابقة الفكر لمبادئه الذاتية. ( أنظر المعجم الفلسفي لأندري لالاند(André Lalande ). وفق هذا المنظور، فلا غرابة إذن أن يمجّد الإنسان حدثا ما، ثمّ ما يلبث أن يستهجنه بشراسة منقطعة النظير إذا ما استجلاه بالمساءلة واستقرأ أبعاده المختلفة و نظر إليه بعين ناقدة، أو توفّرت لديه معطيات وأدلّة جديدة حوله تصبّ جميعها في اتّجاه معاكس لما كان يعتقده عين الصواب. فكلّ موقف ، له بالتأكيد زوايا نظر مختلفة. و الإصرار والعناد على الإبقاء على مواقفنا وآرائنا على ما هي عليه- كأنّها من المقدّسات- رغم الأدلة التى تناقضها، إنّما هو علامة من علامات الغباء. تكريسا لهذه المقاربة فإنّ المثل الفرنسي الشهير يقول : « وحدهم الأغبياء لا يغيّرون رأيهم » (seuls les imbéciles ne changent pas d'avis).
ودون الدخول في متاهات النظريات التي تتناول كيفية تشكيل الموقف وتغييره، لأنّ المجال هنا ليس مجالها، فإنّي أكتفي في هذا السياق بالإشارة فقط إلى أنّ من يكون على درجة كبيرة من الكبرياء فإنّه يصعب عليه تغيير مواقفه. وهو ما يعني فيما يعني أنّ الكبرياء والغباء إنّما هما وجهان لعملة واحدة، هي للأسف، كثيرة الرواج بيننا نحن العرب. وتأسيسا على ذلك، فإنّي اعتبر أنّ "جان جاك روسو" كان ذكيّا جدّا، لا بل وعبقريّا، ليس لأنّه كان له بالغ الأثر في مجريات الثورة الفرنسيّة، وفي نظريّة كارل ماركس(Karl Marx)الاشتراكية، وفي فلسفة إيمانويل كانط (Emmanuel Kant) صاحب "نقد العقل المحض"الذي أبان فيه قصور ومحدوديّة بنية العقل، وفي فلسفة آرثر شوبنهاور (Arthur Schopenhauer) صاحب "العالم فكرة وارادة" الذي أبان فيه أنّ العقل إنّما هو مجرّد أداة بيد الارادة التي تتحكّم به، وفي نصوص جوته (Goethe)الروائيّة و المسرحيّة والشعريّة ، وفي أدب ليون تولستوي (Léon Tolstoï) وخاصة في الجانب الاخلاقي منه و تفضيله العيش وفق أسلوب حياة الفلاحين، وفي الإبداعات الكثيرة للكاتب الروسي فيودور دستويفسكي(Fiodor Dostoïevski) وللشاعرالألماني فريدريك هولدرلين (Friedrich Hölderlin) وغير هؤلاء المشاهير، بل لأنّه كان له من الشجاعة ما جعله يغيّر مواقف له وآراء كثيرة كانت على غير صواب. ولأنّه لم يخش في ذلك مؤاخذات ولا مشاكسات الأوساط المثقّفة الملحدة المعادية له إيديولوجيّا من منطلق احتفاظه بإيمانه الديني. لا بل ولأنّه لم يخش كذلك- وهو الأهمّ- حتّى تلك السطوة النقديّة لكبار فلاسفة التنوير الذين عاصروه - بمن فيهم من بنى مجده قبل ظهوره- وكان زعيمهم الذائع الصيت، وأكثرهم شهرة بل وسلاطة لسان و شراسة في الدفاع عن آرائه، خصمه الألدّ "فرانسوا ماري أرويه"(François-Marie Arouet) شهر فولتير، وهو القائل :« الانحياز هو الرأي من دون تحكيم العقل ». بما يعني انّ فولتير نفسه لا يختلف مع روسو في هذا الشأن رغم اختلافه معه في كلّ شيء. وهو لا يرى حرجا في تغيير رأيه إن كان لاَ مَنْدُوحَةَ لَه عَنْ ذلك، بعد وضع الرأي تحت مجهر العقل الذي لا سلطان عليه لدى فلاسفة التنوير. وهم أيضا ملحدون في أغلبهم. لأنّ لا إلاه عندهم سوى العقل الذي لا سلطة عليه لأيّ نصّ مهما كانت قداسته. لكنّ هذا العقل الذي له هذه المكانة المميّزة التي تجلّه عند الغرب يتبرّأ منه و يكفّره -للأسف- أحد من نسمّيهم أصحاب المذاهب الإسلاميّة الأربعة-وهي ليست موضوعيّا إلّا ثلاثة فقط – ألا وهو أحمد بن حنبل الذي يرى أنّ العقل ذاته كفر. وتأسيسا على ذلك، فهو يرفض بشدّة استعمال العقل حتّى أنّه خاض معارك طاحنة مع من يستخدمون عقولهم في فهم الوحي تأويلا وتعليلا وتنزيلا، ووجّه لهم اتهامات كثيرة وشتائم خسيسة لم يسلم منها حتّى أبو حنيفة النعمان المشهور بإمام أهل الرأي -رغم أنّه أوّل الأئمة "الأربعة " و سيّد الفقهاء في عصره- لأنّ هذا المتفقّه أو المتطفّل على الفقه يرى أن « القول بالرأي والتعليل والمقاصد؛ تشريع عقلي، فيما أنّ الدّين إلهي !! ». ولعلّ ما هو أغرب إنّما هو أن نعتبر الحنبليّة مذهبا فقهيّا، لأن فكر التكفير وسفك الدماء ليس باستطاعته أن يبني مذهبا متماسكا ومقبولا. أضف إلى ذلك أنّ بعض أقطاب علماء أهل السنّة، ومنهم الطبري و ابن جرير و ابن عبد البر، لا يعتبرون بن حنبل فقيها، بل يعتبرونه مجرد ناقل حديث/محدّث(1). وقد وصفه أحد معاصريه هو وأتباعه بالصبيان ؟. وهو على حقّ، لأنّ ما نعانيه اليوم ممّا تأتيه القاعدة وداعش ونحوهما من أعمال عنف و إرهاب يستحي من فعله إبليس كبير الشياطين، إنّما هو نتيجة للفكر الصبياني التكفيري الذي أسّس له أحمد بن حنبل ونهجت عليه السلفية وكرّسه الفقه الوهابي المتخلّف والمنحرف في ما يمكن تسميته بفقه الدماء. المعذرة عن هذا الإستطراد الذي فرضته المقارنة بين فكر الأنوار المنفتح على الحياة والفكر الظلامي المنغلق على الذات والمنفتح أبدا وقصرا على الموت وسفك الدماء.
ولعلّه من الضروري التأّ كيد على أنّ روسو صاحب "العقد الاجتماعى" الذي هو بمنزلة "الكتاب المقدّس" للثورة الفرنسية العظيمة، إنّما هو رجل ثوري لا يعرف المهادنة. حتّى أنّ كارل ماركس ملهم الثورة البولشفيّة نوّه به و قال عنه: « لقد رفض روسو دائما كل تسوية مع السلطة القائمة ». غير أنّه رغم هذه الشخصيّة القويّة، التي تبدو عنيدة في ما يتعلّق بالمبادئ الثابتة إلّا أنّها في واقع الأمر مرنة فيما عدى ذلك. إنّها شخصيّة رهيفة الإحساس، بدليل قول روسو « إن قلبي الحساس كان أس بلائي كلّه*»، لكنّها ترفض الإكتفاء بالرؤية الضيّقة و الأفق المحدود لأنّها توّاقة أبدا إلى الحريّة. بهذا المعنى فإنّ روسو لا يجد غضاضة في تغيير آرائه ومواقفه من الضدّ إلى الضدّ، حتّى وإن تعلّق الأمر بمذهبه الديني أو به شخصيّا كموضوع. وفي هذا يذكر روسو في كتاب "الإعترافات" ما سيقوله بصوت عال امام الله يوم الحشر : « لقد تحدثت إلى الأبرار والأشرار بنفس الصراحة، وما أخفيت شيئاً فيه سوء، ولا أضفت شيئاً فيه خير. وقد أظهرت نفسي كما أنا: حقيراً خسيساً حين كنت كذلك، وخيراً سمحاً نبيلاً حين كنت كذلك، لقد أمطت اللثام عن أعمق أعماق نفسي»*. ولعلّ هذا ما يفسّر تحوّله من البروتستانتيّة إلى إعتناق الكاثوليكيّة ثمّ العودة إلى البروتستانتيّة /الكلفينيّة. وسنتبيّن فيما بقى من هذه العجالة تراجع روسو عن بعض مواقفه الخاطئة من خلال بعض النماذج من نصوصه. حيث أنّ روسو، وهو في السابعة والثلاثين من عمره، وفي أوّل مقال له، جوابا على سؤال طرحته أكاديمية ديجون(Dijon) وهو : « هل أعان إحياء العلوم والآداب والفنون على إفساد الأخلاق أم على تطهيرها؟» هاجم منجزات العلم، وتمظهرات السلوك الرّاقي المهذّب بالمجاملات، وكذا إبداعات الفن. كما دافع عن الدين مؤكّدا على أنّ الأخلاق قد زادت سوءا والروح قد زادت جفافا نتيجة لحلول المنطق محل الوجدان وحلول العلم محل الدين. يقول روسو« ما بال هذا "التقدم" الذي يزهون به، و"تحرير العقل" هذا الذي يفاخرون به-هل أحلّا شيئاً محلّ ما دمّراه؟ هل أعطيا الإنسان صورة للعالم ومصير الإنسان أكثر وضوحاً للأفهام أو إلهاماً للنفوس؟ هل حسَنا حظوظ الفقراء، أو أتيا بالعزاء والسلوى ... للمتألمين المكروبين؟»* ومن بين الأمثلة التي إستشهد بها روسو في هذا المضمار أنّه لمّا أخضع شارل الثامن ملك فرنسا "توسكانيا" و"نابلي" لحكمه دون مقاومة تذكر من روما، « عزت حاشيته كلّها هذا النجاح غير المتوقّع إلى انصراف أمراء إيطاليا ونبلائها باهتمام أعظم إلى تثقيف عقولهم دون الاهتمامات النشيطة والأعمال العسكرية » بحيث أنّ « الفنون والآداب تنخر في عافية المحكومين والحاكمين*». ويشير روسو في نهاية المقال إلى أنّه يجب على الناس أن يتعلّموا « ولو مرة أن الطبيعة كانت تحميهم من العلم، تماماً كما تخطف الأم سلاحاً خطراً من يدي ولدها* » ثمّ يخلص إلى « أنّ رقي العلم قد أفسد أخلاق البشر أكثر مما طهّرها *». وهو ما قد يتقاطع في جزء منه مع ما ذهبت إليه سيمون دي بوفوار، في عصر غير عصر روسو، حيث قالت : « مهما كانت الدولة، رأسمالية أو اشتراكية، فالإنسان مسحوق أينما كان من طرف التكنولوجيا، التي تجعله متغرّبا عن عمله، مسجونا، ومجبرا على التخلّف ».
وبديهي أن لا تقبل هذه الافكار النّاشزة التي تندّد بالعلم والفلسفة والفنون و تخالف توجّهات العصر. لا سيما أنّها ظهرت في فترة إرهاصات مخاض الثورة الفرنسيّة التي آمن مفجّروها لا بالعقل فحسب بل وبفكرة الأخذ بأسباب التقدّم في مختلف تجلّياته العلميّة والثقافيّة فضلا عن ازدهار الآداب والفنون الجميلة، بما جعل الفيلسوف دنیس دیدرو (Denis_Diderot) يستعدّ أنذاك لإصدار ولأوّل مرّة "موسوعة الفنون والعلوم والحرف" (encyclopédie) . لذلك تصدّى الجميع لأفكار روسو وقاومها ليغدو روسو مرفوضاً من المجتمع، بل منبوذا ومتّهما بالجنون مجسّدا فعلا و بحقّ مقولة « إنّ أعالي الأشجار هي التي تداعبها الزوابع *».
وعلى قاعدة « لا يعرف الحق بالرجال ولكن يعرف الرجال بالحق » . أقرّ روسو لاحقا، في آخر كتاب له وهو "الاعترافات" بأن ما ذهب إليه في مقاله الأوّل كان ضعيف الحجّة حيث أنّه« كان مفتقراً الافتقار كلّه إلى المنطق والنظام وإن زخر بالقوة والحرارة؛ فهو أضعف ما كتبت إطلاقاً من حيث الحجة، وأخلاه من الإيقاع والانسجام* ».
وهو اعتراف بالخطأ سيقوم بمثله الفيلسوف مارتن هايدغر (Martin Heidegger) حيث أنّه عندما تولّى منصب عميد إحدي الكلّيات الألمانية صرّح بإنّ « الفوهرر(Führer) -وهو الفاشي هتلر أنذاك- نفسه ولوحده هو حاضر ومستقبل الواقع الألماني وقوانينه ». ولمّا سئل عن ذلك لاحقا أكّد أنّ هذه الشهادة جاءت في إطار التنازلات التي بدونها لا يمكن تزكيته للمنصب. مؤكّدا في ذات الوقت أنّه لا يمكنه اليوم أن يكرّر مثل هذه الكلام.
وأمّا في مقاله الثّاني الذي كان هو الآخر مثيرا للجدل، والذي كان أيضا يجيب في ثناياه على سؤال طرحته أكاديمية ديجون(Dijon) وهو : « ما الأصل من عدم المساواة بين البشر، وهل يقرّه قانون الطبيعة ؟» فقد زعم روسو أنّ عدم المساواة بين البشر كان من نتائج تخلّي البشر عن الحالة الطبيعية، وأعتمادهم للملكيّة الخاصة التي تحميها الدولة بفرض القانون. وأنّه من الأفضل أن يعيش الناس حالاً من الهمجية يحافظون فيها على البساطة و على مزايا الطبيعة وتكون حالة وسطى بين الحال الطبيعية، والحال الاجتماعية. و في سياق التغنّى بمناقب الإنسان الطبيعى الطاهر يقول روسو « حين نفكر في بنية المتوحشين القوية(...) وفي أنهم لا يكادون يعانون من أي علل (...)، يغرينا هذا بالاعتقاد بأننا في تتبعنا لتاريخ المجتمع المدني؛ إنما نحن نروي تاريخ أمراض البشر ». معتبرا «أنّ أغلب عللنا من صنعنا، وكان يسير علينا أن نتجنبها، كلها تقريباً، بالتزام أسلوب الحياة البسيطة، (...)، الذي قررته الطبيعة. فإذا كانت الطبيعة قد قضت بأن يكون الإنسان سليماً صحيحاً، فأنني أجرؤ على الزعم بأن حالة التفكير والتأمل حالة تناقض الطبيعة* ».
ويرى روسو أنّ العصر الذي كان الإنسان فيه أكثر سعادة إنّما هو العصر الذي كان فيه « المجتمع الطبيعي الوحيد، هو الأسرة* » حيث إنعدمت القوانين، بإستثناء تلك التي يفرضها النظام الأسري و السلطة الأبوية. وهي حالة تقترب من المثاليّة « لقد كانت هذه الحالة في جملتها أفضل حالة يستطيع الإنسان ممارستها، فلم يكن ليعدل عنها لولا أن أصابه خطب فادح* » وهو المتمثّل في الملكية الفردية التي جعلت « القلة المميزة تكتظ بالكماليات، على حين تفتقر الجماهير الجائعة إلى أبسط ضروريات الحياة*» ، وكانت سببا في كل الكوارث التي أصابت الإنسان تحت عنوان الحضارة. ورغم ذلك « لن يستطيع الإنسان العودة أبداً إلى زمان البراءة والمساواة متى تركه *».
لكنّ هذه المواقف التي هي في المجمل ضد المجتمع والقانون والملكيّة الخاصّة، ستنقلب رأسا على عقب، عندما يساهم روسو بمقال في موسوعة ديدرو الضخمة بعنوان : "مقال في الاقتصاد السياسي". حيث أصبح روسو يعترف بالمجتمع والملكيّة الفرديّة والقانون والدولة التي قال عنها « ». « أن الدولة (...)هي مصدر القوانين، وهي التي تشكل (...)القاعدة التي تفرق بين العدل والظلم* » وأمّا القانون الذي كان ينتقده روسو ويراه واحدا من آثام الحضارة، و أداة لفرض النظام على الجماهير المستضعفة ، فقد أصبح ينظر إليه على انّه « هو الذي يدين له الناس بالعدل والحرية* » حيث وصفه بأنّه « الجهاز النافع من أجهزة الإرادة الجماعية الذي يرسي، في الحق المدني، المساواة الطبيعية بين البشر، إنه الصوت السماوي الذي يملي على كل مواطن مبادئ العقل العام ». وإمّا الفضيلة التي قال عنها سابقا بأنّها « تعبير الإنسان الحر الطبيعي *» ، فإنّه يعرّفها لاحقا في المقال الموسوعي بأنّها « ليست سوى مطابقة الإيرادات الفردية للإرادة العامة *». ولكن بعد هذه المواقف المتغيّرة، المتراوحة بين الذمّ والمدح لذات المفاهيم هل يجوز نعت روسو بالكاذب وفق مقولة« من مدح وذمّ فقد كذب مرّتين؟ » قطعا لا. بل لا يزيده ذلك إلّا عظمةً وجلالاً. لأنّ روسو قد تراجع عن مواقفه الخاطئة من منطلق الصدق و الرغبة في قول الحقّ والنزاهة العلميّة لا منطلق النفاق وإنتهازيّة المتسلّقين. وهو ما جعله رغم قامته السامقة فكريّا، يعيش فقيرا معدما منبوذا من المثقّفين الذين تغدق عليهم السلطة بسخاء ومطاردا من الكنيسة ومطاردا من السلطة بإيعاز ليس فقط من اليمينيين الملكيين والبورجوازيين أصحاب البطون المنتفخة، بل و من أولئك المثقّفين المترفين ومنهم فولتير. إنّها ضريبة الصدق مع النفس ومع الآخرين في عالم منافق لا يعترف بالأخلاق والفضيلة ولا يخلو أبدا من الذئاب الجائعة في كلّ عصر ومصر.
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------
(1)أنظر الكامل في التاريخ ج6 ص 677 -678 وضحى الإسلام ج2 ص 235
(*)قصة الحضارة - ول ديورانت - المجلد العاشر: روسو والثور


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.