في حديث مع أحد المتنفذين في دوائر رجال الأعمال والعمل الاسلامي على حد سواء، بث لي صاحبي قلقه من تمشي حركة النهضة في معالجة الملفات ، معالجة تغيب عنها الجرأة والحكمة بحسب رأيه، وكمثال على ذلك ذكر لي انه كان على علاقة بطلب قدم الى قيادة النهضة عند زياراتها لمدينة صفاقس في عهد حكومة الجبالي، ويتمثل في تسوية وضعية بضعة آلاف من رجال الاعمال المتوسطين الذين لم يتورطوا في مخالفات كبرى، ورغم ذلك فقد تضرروا من قوانين المصادرة والملاحقة، وهم يشعرون بالغبن لان مخالفاتهم لا ترتقي الى الجرائم الكبرى التي ارتكبها بضع عشرات من رجال الاعمال الكبار ورغم ذلك فهم يرفلون في اموالهم وأعمالهم ويلقون الحظوة لدى أهل السلطة والجاه ، وقد عبروا عن استعدادهم للقبول باي صيغة قانونية للتسوية مقابل رفع الحجر عنهم وتمتيعهم بحقوقهم. بعد فترة أبلغتهم الحركة أنها لا تستطيع التدخل في هذا الملف، وان على كل متضرر ان يلجأ الى القضاء. فهم رجال الاعمال الرسالة ولكن عِوَض ان يلجؤوا الى القضاء لجؤوا إلى النداء الذي لم يكن في السلطة حينذاك ولكنه وعدهم بحل كامل وشامل لمشاكلهم مقابل دعمهم في الانتخابات التشريعية والرئاسية، لم يطّلع محدثي على رد رجال الأعمال هؤلاء، ولكن من السهل التكهن به من خلال نتائج الانتخابات الأخيرة والميزانية الخيالية التي يتمتع بها النداء اليوم. ولا يكتفي حزب النداء بهذا، بل لديه ملفات وقوائم كاملة مستلة من ارشيف الدولة الذي يخضع لسلطانه ويوظفه لخدمة أهدافه. في هذا السياق صرح لي محام يعمل في مكتب استشاري لأحد كبار رجال الاعمال المقاولين ممن جمدت رخصة بعض أعمالهم نتيجة ما شابها من فساد واستفادة من أراض تابعة للدولة من غير وجه حق، قال لي إن رجل الأعمال هذا طلب منه استشارة بخصوص دعوة وردته من النداء لمقابلة السبسي، قبيل الانتخابات التشريعية الأخيرة، وان المطلوب هو الدعم المالي، نصيحة المحامي للمستنصح ان يقابل ويعد ويسوف، فان فاز السبسي أنجز له ماوعده وإلا أخلفه. هذه عينات بسيطة لمنظومة ندائية متكاملة الأركان للاستفادة من المال الفاسد لتحقيق أجندة سياسية وأيديولوجية. من خلالها يمكن أن نفهم سعي السبسي ومن ورائه النداء إلى العفو عن الذين أفسدوا وأجرموا في حق الشعب، ان لم يكن من باب الشراكة الكاملة فيما انتدب حزب النداء لتحقيقه، فمن باب رد الجميل وتطويق الخاصرة . لكن ما يصعب فهمه حقا هو انسياق حركة النهضة لمباركة هذه الخطوة رغم خلفيتها المشبوهة وتعارضها مع نصوص دستورية ومبادئ أخلاقية وسياقات ثورية يرجع لها الفضل أساسا في وجود النهضة اليوم على الساحة. والموقف من مشروع المصالحة لا يعد نشازا في سياق السلبية التي طبعت أداء النهضة في السنوات الثلاث الأخيرة بل يقف المرء مشدوها أمام مظاهر تأييد أخرى لقرارات ندائية لا يخفى ما وراءها من نيات مبيتة لترسيخ مسار رجعي الى عهود التسلط أو تثبيت دعائم التيار الاستئصالي في مفاصل الدولة تهيئة لاحتمالات الإقصاء. وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر الموجة الثانية من التعيينات التي قام بها النداء إثر فوزه في الانتخابات، بعد الموجة الاولى التي قادها السبسي في رئاسته للحكومة الانتقالية ، إقصاء الإطارات الإسلامية واستهداف ذوي الميول الإسلامية والالتزام الديني على مستوى كل الإدارات ، التضييق على مظاهر التدين، عزل الأئمة المعتدلين المؤثرين، التوظيف السياسي والايديولوجي لملف الإرهاب، تصفية الاعلام الهادف... وغيرها من الملفات التي كانت النهضة فيها مباركة أومغيبة. في بعض الدلالات يحتفي البعض اليوم بإنجازات حركة النهضة ونجاحاتها، وتكتيكات قادتها ومهاراتهم، بينما يعكس الواقع صورة حركة لا تتناسب مع حجمها باعتبارها القوة الشعبية والتنظيمية الكبرى في البلاد. بل إن الأحداث أسفرت عن إخفاقات بينة في التقدير والتنزيل مقابل قدر من الحنكة والدهاء لدى الطرف المناوئ الذي خلق في ظرف وجيز ظاهرة سياسية تقدمت على حركة تمتلك عناصر السبق والريادة الضرورية ، من رصيد تاريخي وامتداد جغرافي ورصيد معنوي متجذر في قلب كل تونسي متجرد شريف. لقد ارتاح القوم لخيار السبسي كرئيس حكومة مؤقت بعد الثورة مباشرة، لاستبعادهم أن يكون له طموح سياسي بسبب سنه. لكن الرجل أبان عن عزيمة عركتها التجارب والسنون وجعل ممن ظنه مجرد مطية، حصان طروادة لتحقيق طموحه الشخصي ونمطه المجتمعي. فقد أنجز في فترة حكومته الانتقالية الأولى ما كان سببا رئيسا في فشل حكومة الترويكا اللاحقة، وكون من شتات اليسار وبقايا التجمع وأرباب المال المنهوب حزبا أقض به مضاجع القوم وأربك حساباتهم. وهاهو اليوم يجرهم الى شراكة صورية يتحملون فيها غرمها ويحرمون غنمها، وتزكية قرارات تنقض مبدأ العدالة وتنمي مشاعر المظلومية لدى قطاعات واسعة من الشعب، فضلا عن سياسات تصفية الاعلام الهادف واستهداف مقومات الهوية. على هذا الأساس ذهب البعض إلى حد اعتبار حركة النهضة مساهمة في بروز ظاهرة النداء وصعود أسهم السبسي السياسية عبر القبول بتصدره المشهد السياسي بعيد الثورة، وعدم المساهمة في قطع الطريق على وجوه التجمع للالتفاف على الثورة ومكاسبها، والوقوف ضد قانون العزل السياسي وإقرار شرط السن القصوى للترشح للرئاسة.
ربما سينبري البعض للتبرير والوقوف على ظواهر الكلم والنقولات، دون التمعن في الدلالات. فالمقام هنا ليس بمقام التجريم لسياسة الحركة وخياراتها، لأن السياسة لا تعدو ان تكون مسائل تقديرية خاضعة لاجتهادات بشرية قابلة للخطإ والصواب. ولكن ما يثير القلق فعلا هو تضخم منسوب الوثوق واليقين في المواقف والخيارات وفي من يقف وراءها، وضمور ثقافة النقد، وترهل البناء الهيكلي للحركة وعجزه عن إيجاد مسار مؤسساتي فعال وشفاف لدراسة الخيارات وإفرازها. لاشك ان هناك قرارات مصيرية كثيرة اتخذتها النهضة قد بان صوابها وأبانت عن قدر كبير من الحنكة والدراية، ولكن في المقابل هناك مواقف أخرى أبانت عن قصور غريب في الرؤية، كتمرير بعض القوانين والقرارات المنافية لقيم الثورة ومبادئ العدالة الانتقالية، وخذلان رموز نضالية، تركت مكشوفة وحيدة في مواجهة الدولة العميقة وتمظهراتها السياسية والأمنية والإعلامية. بل إن النهضة خذلت بعضا من أبنائها ممن وقعوا في شرك الاستهداف الممنهج فلم تحمل همومهم بقوة ولم تنصر قضيتهم إلا على استحياء، وقضية سعيد شبلي وإخوانه خير دليل على ذلك، ففي حين جند النداء لشهيده المزعوم كل أدواته الدعائية والسياسية والأمنية حتى أوصل قضيته إلى الجنائية الدولية، اقتصر الجهد الرسمي لحركة النهضة في نصرة أبنائها المسجونين على زيارة المفرج عنهم لتهنئتهم بعد أن قضوا سنوات في السجن يشكون فيه - ربما - قلة حيلتهم وهوانهم على حركتهم. لقد بررت قيادات النهضة أكثر من مرة هذه التوجهات بالرغبة في تجنيب البلاد مصيرا كمصير النموذج المصري، وهذه رغبة محمودة بلا شك ولكن يبدو أنها تحولت إلى خوف سلبي كبل الطاقات وجرأ عليها فئاما من الناس، مع أن هناك تباينا واضحا بين التجربتين سواء من حيث طبيعة المجتمعين ومراكز القوة فيهما أو من حيث خصائص الجماعتين وكيفية تعاطيهما مع التحديات. فقد كان الإخوان يتعاملون بوثوق كبير وغفلة عجيبة جعلتهم يزرعون بذور الانقلاب عليهم بأيديهم. ومازالت أذكر لقاء جمعني بعصام العريان أحد قيادات الإخوان الأساسيين - في فترة ربما اكتملت فيها أركان الانقلاب على مرسي - وهو يؤكد بشكل جازم استحالة الارتداد إلى زمن ما قبل الثورة، وأن عهد الانقلابات في مصر قد ولى بلا رجعة ! قد لا تكون قيادة النهضة على هذا المستوى من الغفلة عن الواقع والسذاجة السياسية، ولكنها بالغت في الاتجاه المعاكس في الحيطة والحذر وتقدير حجم المتربصين بها وإمكاناتهم. وليس المقصود من هذا الكلام دعوة إلى المخاطرة، أو السعي إلى المغالبة والمدافعة، ولكنها دعوة إلى عدم الارتهان إلى التجارب الاخرى دون تمعن وتمحيص، والموازنة بين المرونة والصلابة في الدفاع عن الحقوق والمكتسبات. هي دعوة إلى أن يكون لنهج الشراكة والتحالف الذي تروج له النهضة سقفا محددا، ورؤية استراتيجية واضحة، وأن يخضع لمنظومة رقابية ومؤسساتية فاعلة.
هل إلى خروج من سبيل؟ ليس من المبالغة القول إن حركة النهضة تعاني من خلل هيكلي وضعف في الاستشراف أدى إلى تلك الإخفاقات على مستوى التخطيط والتنزيل، وإنكار ذلك مكابرة تعمق المشكلة وتعيق الخروج منها. وكيف لا يكون ذلك كذلك و قد صارت الحركة على هامش الأحداث، مأخوذة بزخمها، عاجزة عن أخذ زمام المبادرة في بعض أهم المحطات التي مرت البلاد بها، كمسألة ترشيح الجبالي لرئاسة أول حكومة تفرزها الانتخابات في تونس، حيث كان مرشح الأمر الواقع الذي تداعت له بعد ذلك مؤسسات الحركة ورموزها لإقراره، أو تداعيات اغتيال بلعيد الذي أصاب الحركة في مقتل لأنها بكل بساطة لم تستعد لمثل هذا الاحتمال، ولم تعد له خيارات وبدائل للمعالجة، بل أكاد أجزم أنه ليس لدى حركة النهضة خطط لاستشراف المستقبل والمسارات المحتملة والبدائل الممكنة، ولا خطط طوارئ تتوزع فيها الأدوار وتتحدد فيها المسؤوليات مسبقا، وهذا ما أكده بعض العارفين ببواطن الأمور، وأقرته ضمنا بعض الوثائق الرسمية للحركة. يبقى الأمل معلقاً بمؤتمر الحركة القادم لتصحيح المسار وتدارك هذه السلبيات، وإن كانت البوادر الأولية تشير إلى غير ذلك.