لم تخرج سياقات البدء في حفر قناة السويس عام 1859م في عهد الخديوي سعيد عن التأثير والتدافع الإستعماري، وتم حفر القناة بإدارة وإشراف المهند الفرنسي فرديناند دي لسبس وبمتابعة وتوجيه حُكام باريس، وحصلت شركته على إمتياز حفر القناة وملكية جزء من مشروعها، وبينما حصلت حكومات فرنسا وبريطانيا على نصيب مصر من القناة حينما خسر الخديوي حصة مصر، وذلك نتاج سياسته المالية الغير عاقلة، حيث أنفق أكثر من ثلث حصة مصر في ملكية القناة أثناء حفل إفتتاحها. ويمكن إختزال أسباب حفر القناة في كونها توفر عائد مالي لصالح شركات التجارة الأوروبية العملاقة، وبذلك توفر تلك الشركات مصاريف الرحلات البحرية الطويلة حول أفريقيا عن طريق رأس الرجاء الصالح أو تنهي إحتكار تجار مصر عبر الطريق البري الرابط بين البحر الأبيض والأحمر سابقاً مروراً بمصر ومدنها ونجوعها وكفورها المزدهرة تجارياً في حينه. ويعتبر الطريق التجاري البري مهماً لمصر وإقتصادها، ولا سيما أنه حقق فوائد تجارية لصالح مصر أضعاف ما يوفرهُ مشروع قناة السويس، حيث كانت تَصِل السفن التجارية الأوروبية الى موانئ مصر ويتم إفراغ حمولتها في تلك الموانئ مما ينشط التبادل التجاري البيني بين مصر والعالم ويُفَعِل النشاط التجاري الداخلي في إطار القُطر المصري وربما يشمل دول الجوار العربي، وكان يتم تزويد تلك السفن بالوقود والمؤن والإحتياجات المتنوعة، مما أسهم في تنمية إقتصاد مصر وأقاليمها، وكانت تلك السفن تعود برحلتها مجدداً إلى عواصم أوروبة محملة بمنتجات مصر وبلاد الشرق قاطبة، وكانت تنتشر الفنادق والأسواق التجارية حول هذه الموانئ مما ينعش إقتصاد مصر، حتى بعد إكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح كانت تجارة مصر أفضل حالاً. وَفَكَر حكام مصر في أمر ردم وإغلاق القناة في العهدين الملكي والجمهوري، وتم إغلاق القناة طوال عام أثناء العدوان الثلاثي على مصر عام 1956م، وتم إغلاقها ثمانية أعوام بعد حرب عام 1967م، ولم يعاد فتحها إلا في عهد الرئيس السادات وتحديداً عام 1975م. وقعت مصر بعد حفر القناة في بؤرة التنافس الإستعماري، وبسببها إشتعلت العديد من الحروب ومن ضمنها التنافس الفرنسي البريطاني على مصر والإحتلال البريطاني لمصر عام 1882م والعدوان الثلاثي على مصر عام 1956م ونكسة عام 1967م وحرب عام 1973م...، وأصبح دور مصر بعد حفر قناة السويس دور الموظف الذي يجبي القليل من دراهم ودولارات عوائد ضرائب المرور البحري مقابل تأمين وحماية حركة المرور، وأوكل للجيش المصري دور الجباية وحماية حركة مرور السفن، وبينما كان من الأفضل بناء تجمعات سكانية حول القناة تمارس دورها الحضاري والإنسانية في تنمية القناة وحمايتها وتعميرها، ويترك الجيش لممارسة دوره العسكري في الدفاع عن أمن مصر وحدودها. وتنبه الأوروبيون إلى أهمية إرهاق الجيش المصري في قضايا البلاد الداخلية منذ عهد محمد علي باشا، وتحديداً بعد محاولته التوسع في بلاد الشام، مما دفع الدول الأوروبية إلى التحرك ومنع توسعه في بلاد الشام والأناضول، ومنذ ذلك التاريخ خضع الجيش المصري بموجب إتفاقيات متعددة وقعها محمد علي باشا وحكام مصر من بعده، مما أشغل الجيش في قضية إدارة قطاعات الإقتصاد وتولي إدارة المؤسسات الحكومية وهيئات طرق النقل البري والبحري والنهري وهيئات قناة السويس والسد العالي، والكثير من المؤسسات التعليمية والصحية والخدماتية. ولم يتم تطوير قناة السويس طوال العقود الماضية، وكان بالمستطاع أن تصبح محور تنموي يقدم الدعم اللوجستي ويشمل تزويد السفن بالوقود والعتاد والمؤن، ويمكن القيام بدور نقل وتحميل البضائع، وتأسيس مناطق تحوي أسواق ضخمة ومناطق ترفيهية، ولذلك بقيت قناة السويس منذ قرن ونصف ممراً لحركة الملاحة الدولية لصالح مؤسسات تجارية عالمية وعملاقة وبعض الشركات العابرة للقارات وتُخَدِم على إقتصاديات بعض الإمارات والدويلات التجارية في مناطق متعددة ومن بينها دبي في الخليج العربي وسنغافورة وتايون وهونغ كونغ. ولم يلمس المواطن المصري تأثيرات مادية إيجابية في حياته العامة، ولم يشهد المواطن تقدم إقتصادي يُذكَر أو تغيير للأفضل ينتفع به الشعب المصري، بل تراكمت مشكلاته من فقر وجهل وعشوائيات وتردي البنية التحدية وإنعدام الخدمات العامة وتراكم الديون. ولم تخرج عن هذه السياقات التفريعات الستة المُلحَقة بقناة السويس، وتم حفر تلك التفريعات بدوافع تسهيل سرعة مرور السفن، وبالنهاية تمرير مشاريع إقتصاديات الدول الصاعدة، وتسهيل تجارتها البينية، ولم يقوم صانع القرار المصري بتعديلات على خطط هذه المشاريع من قبيل بناء مؤسسات تنموية وتجارية وعمرانية وترفيهية لها علاقة في تأسيس خطوات حقيقية نحو إنشاء مراكز تبادل تجارية ضخمة على جانبي قناة السويس، ولم تحتوي تلك التفريعات على موانئ لتفريغ وتحميل الحمولة أو بناء مصانع ومنشآت إقتصادية حول القناة أو تزويد السفن بالوقود والمؤن. وفي حال تنمية محور قناة السويس فإن هذه الخطوة سوف تُضعِف دور منطقة جبل علي التجارية التابعة لإمارة دبي، وَتَمنَع وصول البواخر وحركة التجارة إلى تلك المنطقة البعيدة نسبياً عن طرق الملاحة العالمية والواقعة في قلب الخليج العربي. مدرس في مدرسة ذكور سنيريا الثانوية
بكالوريوس تاريخ وماجستير تخطيط وتنمية سياسية باحث مختص في التاريخ الإجتماعي والإقتصادي