كيف يكون المسلم اليوم مطالَبا بأن يفهم القرآن ورسالة الإسلام الخالدة التي يتضمنها وأن يفهم الحديث والسنة النبوية الشريفة التي تكمل الرسالة إذا كان قد بدأ مطالعاته بتفسير الجلالين والسيوطي وبالصحيحين البخاري ومسلم وبفقه السنة وبالروض العاطر وما إلى ذلك من التفاسير والشروح (مع أنها درر) وبعد ذلك أردفها بشيء من أدبيات أبي حامد الغزالي ثم بما تيسّر من السيد قطب وربما أيضا ببعض الكنوز التي تتضمنها مجلدات الطاهر بن عاشور وخطب الفاضل بن عاشور، فختَمَ الجولة بالقرضاوي وبكتابات من هذا القبيل؟ حتى وإن اطّلع هذا المسلم على قليل من طه حسين وتوفيق الحكيم والطيب صالح فقد فعل ذلك فقط لكي "يكفّر عن سيئاته" معدّلا بهؤلاء الكفة لا غير. فطالما أنّ هذا المواطن الاعتباري لعالمِ القرن العشرين والقرن الواحد والعشرين قرأ لهؤلاء كلهم ولغيرهم من القدامى ولو كانوا من الجهابذة قبل أن يقرأ فكر العصر الحاضر ويتعرف على ما قاله هيجل وماركس، وهيدغر، وفرويد، ولاكان، وألبار كامي، وجون بول سارتر، ورولف وادو أمرسون، وتشومسكي وحتى سيمون دي بوفوار، وأقثا كريستي، وجورج سيممنون، وحتى جيرار دي فيلييي، ودجايمس هادلي تشايس وغيرهم من فلاسفة وأدباء ومفكري العصر، سيبقى المنهج الذي يتبعه مئات الملايين من المسلمين مُفضٍ إلى الرتابة والجمود والجهل بل ومُنتجًا للتشدد الديني وللتعصب وبالتالي مهيئًِّا للقابلية للإرهاب. ما المانع في أن ينهل المسلمون من كتابات العصر؟ ألأنّ مؤلفيها ليسوا مسلمين أم لأنه ليس لدى هؤلاء علما بالإسلام؟ أم لأنهم لا يكتبون باللسان العربي؟ إنّ هذه حجج مردودة على من يستدل بها لتبجيل العودة إلى المناهل القديمة على الغوص في صميم المنابع الحديثة. فالأدب المعاصر والفلسفة الحديثة والفكر الراهن، بالرغم من أنها أوروبية وأمريكية الجذور إلا أنها هي الكفيلة بمساعدة المسلمين اليوم على فهْم كيفية اشتغال العالم المعاصر، لا لشيء سوى لأنها معاصرة لهؤلاء ومعبرة مثلما ينبغي أن يكون التعبير عن الحياة بكل تفاصيلها وفي كل أبعادها، لا سيما أنّ المسلمين بحاجة إلى فَهم هذه الحياة المعاصرة كسياق واقعي، وذلك عبر اللغات الحية الغربية، لكي يفهموا من خلاله القرآن و السنة ثم يحَوّلوا فهمهم إلى كلامٍ وفكرٍ باللسان العربي مُعوّلين في ذلك على عودةٍ مستنيرة - هذه المرة- إلى أفكار وأدبيات المسلمين القدامى ، وليسوا بحاجة إلى فَهم حياة القدامى من خلال واقع كتبيّ لا غير لأنّ الاقتصار على التفاسير والشروح القديمة وحتى على الكتابات شبه الدينية والأدبية (الناطقة بالعربية)، مهما كانت معاصرة، من شأنه أن يُربكَ مَلكة فهم القرآن والسنة لديهم وأن يُبقيَ على جمود اللغة العربية وذلك بمفعول تكرارها لنفسها وعدم اختلاط الناطقين بها باللغات الأجنبية الحية كما ينبغي. بعد أن يبلغ المسلمون حدا أدنى من إحكام القبضة على تنظيم الحياة المعاصرة ومن القدرة على التعبير عن هذه الحياة بلغة عربية حية، وذلك بفضل تحويل فهمهم للواقع الذي حققوه عبر اللغات الأجنبية الحية إلى فهمٍ معبَّرٍ عنه بالعربية، حينئذ يحق لهم الافتخار بجهابذة العلماء المسلمين عبر العصور بناءا على أنه أصبح لأعمال هؤلاء معنى حديثا. أما الافتخار قبل ذلك الوقت فهو مجرد مفاخرة إن دلت على شيء فإنما تدل على التصحر الفكري وعلى منهج خاطئ يتمثل في التعنت في إتباع رسائل ثرية صاغها القدامى في أزمنة بعيدة عن الحاضر وفي أماكن قد تغيرت كثيرا قبل هذا اليوم، رسائل انبعثت في سياقاتٍ ماضية وبالتالي غيرَ قابلة للاستنساخ في العصر الحالي، رسائل لا قيمة معاصرة لها لا فقط لأنها لا تُطلع المسلمين على طبيعة عالم اليوم بل لأنها أيضا تُوَلدُ الكبت والحرمان لدى من يحاول الاقتداء بها في حين أنه لا يملك القدرة على خلق سياقات حديثة تسمح بتوليد رسائل مماثلة. وهذا التعنت العام بخصوص التمسك بمنهجٍ زائغٍ عن طريق الصواب لم يأت من العدم بل له علاقة عضوية بإنتاجٍ رمزي ضحل للأدباء والمفكرين العرب والمسلمين المعاصرين. إنهم في غالبيتهم - ونظريا- مزوَّدون بثقافة الإسلام و مع هذا فليس في جِرابهم ما يكفي من الدراية بأسرار الأنظمة العالمية المعاصرة، وهي أسرار من شأنها أن تنير السبيل أمام عموم المسلمين لكنها مُعبَّرٌ عنها باللغات الأجنبية الحية، لذا فإنهم لا يزالون يشكلون جزءا من المشكلة ولم يرتقوا بعدُ إلى جزء من الحل وبالتالي فإنهم بدورهم - فضلا عن عامة المسلمين- معنيون بمزيدً من التعلم. وعلى العكس من ذلك، فإنّ نظراؤهم الغربيون هم المرشحون لأن يتواصل التتلمذُ على أيديهم بناءا على أنهم من يملكون الأسرار بشأن اشتغال الماكينة العالمية في كل أبعادها، بل يملكون تقريبا كل شيء - ماعد الإسلام. نخلص إلى أنّه من واجب المسلمين اليوم، نخبا وعامة الناس، أن يتعلموا ال"كل شي" الذي يفتقرون إليه، يتعلموه من عند العالم المتقدم قبل أن يبثوه إلى هؤلاء من جديد لكن في أشكال وأنماط حديثة وبلغة عربية - وبكل الألسن- وذلك عندما يكونوا قد فكروا بعقولهم لا بعقول غيرهم، وبعد أن يكونوا قد حولّوا الفهم الأصلي (الوافد) إلى فهمٍ صادر عنهم بصفتهم طلابا جددا، منجذبون دوما للمعرفة، في مدرسة تعلّم أساليب العيش المثمر والتعايش الإيجابي. محمد الحمّار